أسطورة الأصل الأمازيغي ( حقد دفين أعمى مارسه العرب ضد الأمازيغ )
[right]هناك خطاطة أسطورية في التاريخ الإخباري الإسلامي تتم عمليةُ استعادتِها كلما تعلق الأمر بأصول الأمازيغ بشمال إفريقيا. والحقيقة التي يجب تسجيلها، في هذا الصدد، هي أن هذه الخطاطة تحكمها بنية فكرية ميتولوجية تعود، في العمق، إلى الصورة التي ظل الساميون يحملونها عن غير العرب من الشعوب التي تنتمي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط. فمن المعلوم أن كل المخيال الذي تحمله الشعوب العربية عن أصولها تعود، بالدرجة الأولى، إلى تلك القصص التي أوردها الإخباريون، نقلاً عن مظان توراتية أُخذت بدورها عن حضارات الشرق الأوسط وآسيا وشمال إفريقيا وجنوب أوروبا. ولكي نفهم هذا الإلحاح الذي يمتاز به بعض الذين يدَّعون أن أصول الأمازيغ من اليمن، فإنه لا بد، في نظرنا، من الوقوف عند الخلفية الميتولوجية التي تتحكم في هذا الادّعاء. ولم يكن لنا أن نعود إلى هذا الموضوع الذي طرحناه جانباً منذ زمن بعيد، والذي اعتبرناه موضوعاً متجاوزاً لا يستحق المناقشة إلا في إطار أكاديمي، لولا المهاترات الإيديولوجية التي بدأت تظهر مؤخراً على السطح، والتي لم يكن لها من هدف إلا خلق نوع من البلبلة الفكرية للتراجع عن ما تم تحقيقه للغة الأمازيغية وثقافتها، بل إن لم يكن من أجل إقبار هذه اللغة وهذه الثقافة اللتين تعيشان، للأسف الشديد، آخر أيامهما في ظل سياسة عروبية ممنهجة، يعقوبية، إقصائية ومدمرة.
والجدير بالذكر أن مقاربتنا للموضوع ليست مقاربة تاريخية، ولكنها مقاربة ذات أبعاد أنتروبولوجية تستعيد القصص الديني الذي اتُّخذ دائماً مرتكزاً لتأكيد «تاريخية الأصول»، ولتأويل مضامينها كي تخدم أغراضاً إيديولوجية واضحة. ومن هنا فإن المقاربة لا تعالج القصص في علاقتها بحجية الأحداث التاريخية، كما لا تعالجها بوصفها نصوصاً من إنتاج الوحي القرآني. إذ أن هدفنا ليس هو التوقف عند الحدث التاريخي ولا التوقف عند القصة القرآنية، وهو مشروع آخر يستحق البحث، ولكن الهدف الأساسي منه هو التوقف عند القصة الدينية عموماً في تعالقها مع التحولات الفكرية والمعتقدية والسياسية لشعوب ظلت تستعمل الدين من أجل تحقيق غايات الهيمنة العرقية والثقافية والحضارية، والتي تم استرجاعها، للأسف، مع ظهور القومية العربية والتيارات الإسلاموية. ولهذا أرجو من القارئ الكريم أن يتتبع معي، بقليل من الصبر، مراحل هذه الأسطورة – الأصل التي تحولت إلى «حقيقة تاريخية وقرآنية»، وجعلت من الأمازيغ شعباً ذا أصول يمنية.
1ـ الأصل الميتولوجي وانقسام البشر
من المعلوم أن كل الديانات السماوية تتفق حول حقيقة ميتولوجية واحدة مفادها أن أصل الإنسان من الجنة؛ فالله –كما هو معلوم- خلق آدم من التراب، وخلق منه زوجه حواء التي أغرته بالأكل من الشجرة، فأودت به في مهاوي الانحطاط الأرضي السحيق. هذه هي القصة الأولى كما وقعت، وهذا هو التبرير الأسطوري الذي يُعطى عادة لتفسير المأساة التي يعيشها الإنسان اليوم. إن السبب في خروج الإنسان من الجنة هي المرأة. ولكن الحقيقة الميتولوجية الثانية التي تُفصح عنها مختلف المظان الإخبارية لمفسري الكتب المقدسة، هو أن الإنسان ليس له نفس الجوهر؛ فهو معادن، منه الخبيث والطالح ومنه الطاهر والصالح. منه من له أب مبارك مقدس، ومنه من له أب ملعون مدنس. ومرة أخرى ستلعب المرأة في هذا التمييز بين الجواهر الإنسانية دوراً أساسياً. ففي الزمن الابتدائي تؤكد التوراة، ومختلف التفاسير الدينية الإسلامية، أن سيدنا آدم لما قضى حاجته من زوجته حواء، استلقى إلى جانبها، و»استسلم لداعي الكرى»1؛ ولما كانت حواء زائغة العين، فإنها استقبلت إبليساً الذي حل بأحضانها، فدعاها إليه، و»استجابت له، فحبلت بقايين [قابيل]»2. وهذه هي الخطيئة الثانية التي سترتكبها أمنا حواء؛ فبعد أن تسببت في معاناة أبينا آدم، وعبره في معاناة البشرية جمعاء، بإنزالها لنا من السماء إلى الأرض، ها هي ذي تخونه في وضح النهار دون أن يشعر، وهو الغاط في نومه؛ ومع من؟ مع إبليس أو سامائيل كما تنص على ذلك التوراة. وللأسف فإن المسلمين سيتلقفون هذه الرواية لكي يؤكدوا بدورهم على هذه الخطيئة الأصلية الثانية للمرأة، ولكي يبرروا من خلالها لذلك التدافع العنصري بين آل هابيل وآل قابيل كما سنرى. إذ يروي الإمام أحمد، بدوره، حديثاً مشابهاً رفعه إلى الرسول يقول فيه: «لما وَلَدَتْ حواءُ طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سميه الحارث، فإنه يعيش، فسمته الحارث فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره»3. والحارث في جميع المصادر والمظان الإسلامية هو ذلك المزارع الذي يتماهى شكلاً ومضموناً مع شخص إبليس، فهو من وحي الشيطان وأمره. ونتيجة لهذه الخيانة الابتدائية التي اقترفتها حواء، ونتيجة كذلك لأكلها من الشجرة التي أبدت لها ولزوجها سوءتيْهما، يروي البخاري حديثاً عن أبي هريرة عن النبي قال فيه: «لولا بنو إسرائيل لم يخْنزِ اللحم، ولولا حواء لم تَخُن أنثى زوجها»4.
إن هذه القصة تؤكد لنا، إذن، على شيئين أساسيين: أولاهما أن قابيل ليس ابناً لآدم؛ فهو كما تؤكد الأسطورة ابنٌ لإبليس ولحواء التي استجابت لداعي الزنا فخانت، كما استجابت له لما كانت في الجنة، أي لما كان إبليس يتلبس شكل الحنش. فقد سبق لها أن باشرت علاقات جنسية محرمة مع حية الفردوس مما تسبب لها في الدورة الشهرية؛ وإلى ذلك تشير التوراة، نقلاً عن التراث الفارسي، إذ ذَكَرت «أن المرأة الأولى ضاجعتها حية، فحصلت العادة الشهرية مباشرة، بعد العملية الجنسية»5؛ وأما الشيء الثاني، الذي تؤكد عليه القصة، فهو أن كل الأبناء الذين سيشكلون السلالة «القابلية» (نسبة إلى قابيل) سينتمون بالضرورة إلى الجد أو الأب الأول «إبليس»، أي إلى السلالة التي يتميز «جوهرها» بالدنس والانحطاط. هكذا، إذن، ستتشكل الجماعة الأولى من «المجرمين» الذين يسكنهم الأبالسة والذين سوف يرسل إليهم الإله مختلف الرسل لكي يردوهم عن غيهم إلى الطريق القويم. وتجدر الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن حواء التي ولدت قابيلاً (اللقيط) ستلد لها ابناً آخر من صلب أبيه آدم، والذي سيسميه باسم «هابيل»، هذا الذي سيتحول عند عرب الجاهلية إلى الإله «هبل» سيراً على عادة عبادة الأجداد في الثقافات التيولوجية الأبيسية. وحسب كل الروايات الأسطورية المروية، في هذا الإطار، فإن الفتى «هابيل» كان أحب إلى أبيه من قابيل؛ بل وهذا ما تؤكده قصة الخلق الأولى للبشرية؛ فقد جاء في الأثر أن هابيلاً الراعي كان لا يرد لأبيه أمراً، فقد كان مطيعاً له، مستجيباً، عكس قابيل المزارع الذي كان يعصي أوامره؛ والفاجعة التي ستشكل الخطيئة الثالثة هي عندما سيعصى هذا الكائن «الإبليسي» المنحط (قابيل) أوامر والده في عدم الزواج بأخته التي هي من نفس البطن الذي هو منه (لقد كان يريد الزواج من توأمته)؛ فقد كان آدم يريد أن يزوج هذه الفتاة التي كانت أجمل أخواتها من ابنه هابيل، ويزوج الذميمة لقابيل، تفضيلاً للأول على الثاني. ولما تأكد لهذا الأخير أن والده يفضل عليه أخاه، وأن الفتاة الأجمل التي يحبها قلبه لن تكون له، وأن الله قد فصّل في الأمر بتقبُّله القرابين الدموية (بقرة أو كبش) التي قدمها له هابيل، وأنه تعالى قد لفظ قرابينه الزراعية (مزروعات وخضر) التي تقدم بها هو، فإنه سيقرر اغتيال أخيه، وقتله في المرعى ثم الهروب بأخته-الزوجة التي نزلت معه إلى السهل6 أو إلى اليمن كما يؤكد ابن الأثير7. ومرة أخرى ستظهر لنا المرأة سبباً في المأساة الإنسانية، معمقة الخطيئتين الأوليين بخطيئة ثالثة ستكون سبباً في افتراق الإخوة.
وسيشكل موت هابيل كارثة كوسمولوجية كبرى، ليس فقط لأن هذا الفتى كان أعز الأبناء عند آدم، ولكن أيضاً لأن واقعة الموت ستمأسس لقطيعة أبدية بين شعبين: أحدهما مطيع للوالد، منفذ لأوامره (المجتمع الأبيسي)، وثانيهما متمرد عليه، وملعون من طرف الإله (المجتمع الأميسي). هكذا، إذن، ستمنح القصة الميتولوجية لقابيل أبناءً هم أقرب إلى الأبالسة منهم إلى البشر؛ فهم أول من عصى الإله، وهم أول من رقص وغنى، وهم أول من صنع أدوات الموسيقى وبرعوا في استعمالها8، وهم أول من بنى وأعلى البنيان وسكن القباب، وهم أول من صنع الصنائع وعمل النحاس والحديد، وهم أول من ضرب الصنج والونج9، وهم أول من سن لسنة الاختلاط بين الرجال والنساء، وعبدوا النار10 وكانوا فراعنة وجبابرة11 وهم أول من سكن «الحضيض» أو بلاد اليمن إلخ.. وهذه كلها تهم «خطيرة» تودي بأصحابها إلى جهنم والعياذ بالله. وأما بالنسبة لآدم، فإن الله سيرزقه بابن آخر هو أشبه بأخيه، سماه شيثاً؛ وقد كان هذا الابن الثالث مطيعاً لأبيه، ممارساً لمهنة الرعي، بدوياً في أخلاقه وسلوكاته، رافضاً للحضارة الزراعية. ولأنه كان على الضد من أخيه قابيل فإن والده أوصى له بوصية النبوة التي أقسم الإله أنها لن تخرج من نسله أبدأ. فأكثر الله سلالته، وجعلها وفيرة، وخصها بالنبوة، فمنها الرسل والأنبياء والصلحاء والمباركن إلخ ومن سلالة أخيه قابيل يتحدر الكفار والطغاة والعصاة والمارقون، فمنهم الفراعنة ومنهم الجبابرة ومنهم الطغاة12 إلخ. «قال ابن عباس: ولد لشيث أنوش وولد معه نفر كثير، وإليه أوصى شيث، ثم ولد لأنوش بن شيث ابنه قينان من أخته نعمة بنت شيث بعد مضي تسعين سنة من عمر أنوش، وولد معه نفر كثير، وإليه الوصية، وولد قينان مهلائيل ونفرا كثيرا معه. وإليه الوصية، وولد مهلائيل يرد، وهو اليارد، ونفرا معه، وإليه الوصية، فولد يرد حنوخ، وهو إدريس النبي، ونفرا معه، وإليه الوصية، وولد متوشلخ ونفرا معه، وإليه الوصية»13.
هكذا، إذن، ستقتصر الوصية أو النبوة على سلالة واحدة، وهي سلالة آل شيث الرعاة الذي لم يصنعوا لهم صناعة، ولم يعلو لهم بنياناً، ولم يشعلوا لهم ناراً، ولم يحرثوا لهم أرضاً؛ ولم يكن الأمر ليتوقف عند هذا الحد، بله إن أبانا آدم سيلعن ذرية قابيل ويخرجهم من رحمة رب العالمين إلى الأبد، وسيوصي أبناءه من «شيث» فلا يخالطوهم، وإن اقتضى الأمر أن يأسروهم ويقتلوهم ويستعبدوهم ويسْبوا نساءهم. وهذا ما سيقوم به النبي إدريس، هرمس الهرامسة14، تنفيذاً للوصية15؛ فقد قيل إنه هو «أول من سبى من ولد قابيل بن آدم فاسترق منهم، وكان وصي والده «يرد» فيما كان آباؤه وصّوْا به إليه، وفيما أوصى بعضُهم بعضاً. ودعا إدريس قومه ووعظهم وأمرهم بطاعة الله تعالى ومعصية الشيطان وأن لا يلابسوا ولد قابيل»16، أي أن لا يختلطوا بهم ويتخذوهم أهلاً. لكن يبدو أن الوصية لم تُنفذ بحذافيرها مما أدى إلى نزول بعض من أبناء شيث إلى السهل، فأعجبوا بالنساء الجميلات المشرعات من بنات قابيل، فجالسوهن وراقصوهن وفعلوا بهن ما يفعل الرجال بالنساء، وشربوا الخمرة17 إلخ. وأمام «هول» الاختلاط، ونسيان الإنسان لأمر السماء، سيرسل الإله إليهم النبي نوح الذي سيفقد الأمل في تغيير ما هم عليه، فيدعو عليهم جميعاً ويهلكهم الطوفان كما يعلم الجميع. ولم يكن في الإمكان لهذا النبي أن يكون، كما هو معلوم، من غير سلالة شيث. فقد وَلَدَ إدريسٌ (الذي هو الابن السادس لآدم) «متوشلخ»؛ «ثم نكح متوشلح عربا ابنة عزازيل بن أنوشيل، فولدت له لمك، فكان يعظ قومه وينهاهم عن مخالطة ولد قابيل»18، ثم تزوج لمك قينوش «فولدت له نوح بن لمك، وهو النبي؛ ونكح نوح بن لمك عزرة فولدت له ولده ساما ًوحاماً ويافث»19. هكذا، إذن، سيكون النبي إدريس هو الجد الثالث للنبي نوح، تماماً كما سيكون آدم هو الجد السادس للنبي إدريس. فهم من نفس السلالة المباركة، ومن نفس العرق المقدس الذي يمتد عميقاً في جينيالوجيا النبوة. وهل في الإمكان أن يلد أبناء قابيل نبياً وقد شملتهم اللعنة منذ الأزل؟
وإلى هذا الحد ستبدو لنا الحكاية، كما لو أنها تميز بين الخير والشر استناداً إلى معايير أخلاقية بدوية لجماعة بشرية مغرقة في البداوة. وهو أمر نجده لدى الكثير من الشعوب. غير أن الجوهري في هذا التمييز هو ذلك المعنى الإيديولوجي، أو إن شئنا الدقة «المعنى العنصري»، الذي يتخفى في المعنى الميتولوجي، والذي يصنف العالم إلى فئتين: فئة مباركة ومرضي عليها منذ الأزل وإلى الأبد، وفئة مغضوب عليها وملعونة منذ الأزل وإلى الأبد. فنحن أمام قصة تمأسس للنسب الأبيسي المتعالي انطلاقاً من مفهوم الأبوة المقدسة لآدم، وتجرِّم الأبوة المدنسة (الشيطانية) التي هي الوجه الآخر للأمومة المنحطة والملعونة. ويتمخض عن هذا أن الجماعة الوحيدة التي تستحق الاستمرار، والاعتزاز بالانتساب إلى أبيها الأول إنما هي الجماعة الأبيسية التي يشكل فيها النبي نوح آخر عناقيدها المقدسة؛ وأما الجماعة الثانية فإنها لا تستحق هذا الاستمرار، ولذلك كانت نهايتها مأساوية (الإغراق بالطوفان). ولم يأت العقاب هنا تتويجاً لما ارتكبته الجماعة «القابلية» (أبناء وبنات قابيل) من معاصٍ ومناكر (الصناعة والبناء والزراعة والموسيقى والاختلاط وشرب الخمر) كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكنه جاء، في الأصل، لأن قابيلاً لا أب له شرعي، أو لأن له أباً شيطاناً (ابن زنا)، أو أيضاً لأنه (وليس الأبناء) قتل أخاه هابيلاً واستولى على أخته ولأن الله فضّل عليه هابيل منذ الأزل.
نخلص من هذا إلى أن جماعة قابيل قد انتهت من الوجود، وأن الجماعة المقدسة هي التي استمرت بعد أن رعاها الإله، وحملها في السفينة. لكن الذي تجدر الإشارة إليه، هو أن حكاية النبي نوح لن تكون في النهاية سوى استعادة لنفس القصة ولنفس المنطق الميتولوجي (الإيديولوجي) لحكاية آدم وأبنائه الثلاثة (قابيل وهابيل وشيث)؛ والفرق الوحيد بين الحكايتين هو أن حكاية نوح سوف تُعَيِّن، بما لا يدع مجالاً للتأويل، مَنْ هم هؤلاء الملعونون، ومن هم أولئك المبارَكون. وبصيغة أخرى فإن حكاية نوح ستنقل الصراع من المتخيل لكي تمنح له مضموناً واقعياً يجعل للملعونين أوصافاً تختص بها وتُعرف بها شعوب محددة بحوض البحر الأبيض المتوسط، وتجعل للمباركين أوصافاً أخرى تختص بها وتُعرف بها أيضاً جماعات بشرية تميزت تاريخياً بصراعها الدائم مع الشعوب الأولى. ولكي نفهم أكثر هذا المضمون الواقعي للحكاية علينا أن نخوض في الحكاية التالية لنوح وأبنائه.
2 ـ الأصل الميتولوجي للساميين والحاميين
لا تعدو أن تكون حكاية نوح وأبنائه، كما أشرنا، استعادة لحكاية آدم وأبنائه. فكما أن آدم كان له ثلاثة أبناء هم قابيل وهابيل وشيث، سيكون لنوح بدوره ثلاثة أبناء هم سام وحام ويافث. وإذا كانت حكاية آدم لا تسمي الشعوب التي كانت موضع الصراع إلا رمزاً (المزارعون الذين كان يُرمز لهم بقابيل، والرعاة الذين كان يُرمز إليهم بهابيل)، أو من خلال الإشارة إلى أن قابيل قد هبط إلى اليمن، فإن حكاية نوح ستسميهم بأسمائهم؛ فقد أورد وهب بن منبه حديثاً فصَّل فيه سلالة آل سام وسلالة آل حام وسلالة آل يافث. قال وهب بن منبه: «إن سام بن نوح أبو العرب وفارس والروم، وإن حاماً أبو السودان، وإن يافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج20. وقيل: إن القبط من ولد قوط بن حام»21. ولأن التمييز هنا مبني أساساً على الخلفية الميتولوجية لتشكل الأعراق، ولتخالف وتفاضل جواهر الأجناس الإنسانية، فقد كان لا بد من تبرير ديني لهذا التفاضل، بحيث سنلاحظ استعادة حرفية لخطاطة التمييز بين الأمة الملعونة والأمة المباركة كما رأيناهما في حكاية آدم وأبنائه. والتبرير الديني هنا هو العصيان، فكما عصى قابيل أباه سيعصى حام أباه أيضاً. إنه سيعلن استهانته بواقعة الأبوة بوصفها قيمة خلاقة، ويقدم على أمر «شنيع» تجلى في استهزائه بعورة الأب وبقضيبه الذي يرمز في المعتقدات الأبيسية إلى أصل العالم. وهو ما استدعى الدعوة عليه ولعنه تماماً كما فعل آدم مع ابنه قابيل. نحن إذن، أمام نفس السيناريو ونفس العمق الميتولوجي لانبثاق الأمتين؛ ويفسر بن المنبه حكاية اللعنة التي شملت حاماً ونسله كما يلي: «وإنما كان السواد في نسل حام لأن نوحا نام فانكشفت سوأته فرآها حام فلم يغطها، ورآها سام ويافث فألقيا عليه ثوبا، فلما استيقظ علم ما صنع حام وإخوته فدعا عليهم.»22. وكما لا يني يشرح المفسرون هذه الواقعة فإن «السواد» هو «مسخ» لعرق محدد عقاباً له على أمر مشين أتاه أبوهم. وتذهب الروايات التوراتية إلى أبعد مما أوردته الروايات الإسلامية، فقد ذكرت أن سبب هذا المسخ لا يعود فقط إلى أن حاماً شاهد عورة أبيه ولم يسترها، بل يعود إلى أنه تقدم من والده، وهو نائم، فـ « ضفر حبلاً على شكل أشنوطة ثم شده على أعضاء جده التناسلية، حتى أخصاه، فلعنه أبوه قائلا: «الآن بات متعذراً علي إنجاب ابن رابع كنت أريده أن يقوم على خدمتك أنت وأخويك. فليكن كنعان ابنك البكر عبداً لهما. ولأنك حرمتني من ممارسة الفعل الشنيع في سواد الليل، سيولد أبناء كنعان سوداً ذميمي الخلقة! وسيكون شعر أحفادك جعداً، وستكون عيونهم قانية، لأنك لويت عنقك لتتطلع إلى عريي، ولأن شفتيك ابتسمتا لمصيبتي، فستغلظ شفاه أحفادك، ولأنك لم ترع حرمة عريي، فسيكتب على أحفادك أن يعيشوا عراة، وستكون أعضاء الذكور منهم طويلة على نحو يثير الاشمئزاز»23. هكذا، إذن، سوف تعاقَب سلالة كنعان ابن حام تماماً كما عوقبت سلالة قابيل، وهذا ليس لجرم اقترفوه هم، ولكن لأن الجرم ارتكبه آباؤهم!. و»لهذا – يقول ابن كثير- دعا [نوح] عليه أن تغير نطفته، وأن يكون أولاده عبيداً لإخوته»24، «فقال: «ملعون كنعان! عبداً ذليلا يكون لإخوته». وقال: «تبارك الرب إله سام، ويكون كنعان عبداً لسام. ويزيد الله يافث، فيسكن في خيام سام ويكون كنعان عبدا له !» (11 التكوين 9)25. ويضيف النيسابوري، في هذا الصدد، حديثا آخر نقله عن عطاء، قال فيه: «ودعا نوح على حام أن لا يعدو شعر ولده آذانهم، وحيثما كان ولده يكونون عبيداً لولد سام، ثم يزيد مجاملاً مؤكداً لأهل التوراة فضلهم، فيقول: «ولما حضرته الوفاة (يقصد نوحا) أوصى إلى ابنه سام، وجعله ولي عهده»26، ثم إن جبريلاً نزل إلى نوح، «فقال له: يا نوح إنه قد انقضت نبوتك واستكملت أيامك، فانظر الاسم الأكبر وميراث العلم فادفعها إلى ابنك سام، فدفع عليه السلام آثار النبوة إلى ابنه سام، فأما حام ويافث فلم يكن عندهما علم ينتفعان به»27؛ و»رفع نوح يديه إلى السماء يدعو ويقول: اللهم غيِّر ماء صلب حام حتى لا يولد له إلا السودان [...] جميع البيض سواهم من سام، وقال عليه السلام لحام ويافث: جعلت ذريتكما خولاً أي خدما لذرية سام إلى يوم القيامة»28.
هكذا، إذن، سيكون الحكم نهائياً وغير قابل للاستئناف. فقد حكم الله، بعد أن رُفِعت أكفُّ نوح إلى السماء تلعن السلالة الحامية. ولذلك اختفت النبوة (الوصية / ميراث العلم) تماماً من ذرية حام – المزارع، ودُفعت إلى ذرية سام – الراعي بشكل نهائي وأبدي. والأدهى من كل هذا هو أن هذا الحكم الأزلي سيجعل من أبناء حام خولاً أي عبيداً لآل سام بعد أن تغيرت خلقتهم، واسودت نطفهم، وأصبحوا أشبه بـ»حيوانات» كما يورد المفسرون وكما أورد ذلك ابن خلدون29. إننا هنا، إذن، أمام تقسيم عنصري، يعترف بالانتماء إلى نفس الأب ( قد يكون نوحاً أو قد يكون آدم)، ولكنه يجعل لكل قسم جوهراً ومعدناً، كما يبرر، من خلال ذلك، للهيمنة والاستغلال والاستعباد، بل وللجهاد من أجل السبي والقتل والأسر وأخذ ما في أيدي الناس. وتظل مع ذلك سلالة يافث موضعاً للغموض؛ إلا أن تتبعنا لمختلف الروايات الأسطورية قد جعلنا نلاحظ أن الأسطورة قد وضعت لهؤلاء نسباً أبوياً أرقى من نسب الحاميين، فقد رضي عليهم نوح، ومن خلاله الإله، فجعل منهم أمة تسكن في خيام سام، فهم تارة الترك والصقالبة ومغل المغول وتارة قبيل ياجوج وماجوج، وتارة أخرى هم نتاج لعلاقة جنسية غير واعية باشرها آدم في غياب الأم، فاختلطت نطفته بتراب الأرض، فأنتج سلالة يافث. يقول ابن كثير: «إن يأجوج وماجوج خلقوا من نطفة آدم حين احتلم فاختلط بتراب فخلقوا من ذلك، وأنهم ليسوا من حواء»، وأنهم «مغل المغول»؛ وينسب إلى الرسول قوله أن «من ورائهم ثلاث أمم: تاويل وتاريس ومنسك»30. وفي كل الحالات، ورغم تقاطع سلالة الترك والصقالبة وياجوج وماجوج ومغل المغول بسلالة آدم ونوح، فإن آل يافث أعلى درجة من الحاميين الذين لم يُخلقوا إلا ليُستعبدوا ويقتَّلوا ويُسبوا وتُؤخذ أموالهم، وهم (أي آل يافث) أدنى درجة من الساميين الذين اختار الإله سلالتهم لكي يبث فيها الأنبياء والرسل والصلحاء والأسياد والأنقى دماً وعرقاً. يقول ابن سعد في هذا الصدد: «وَلَدُ نوح ثلاثة: سام، وحام، ويافث، فوَلَدَ سامٌ العرب وفارس والروم، وفي كل هؤلاء خير، وولد حام السودان والبربر والقبط، وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج»31 «ولا خير فيهم»32، ثم يضيف: «فنزل بنو سام المجدل سُرّة الأرض، وجعل الله النبوة والكتاب والجمال والأدمة والبياض فيهم»33. وهو ما يعني أن قرار التفضيل، كما رأينا، كان قراراً سماوياً ونهائياً وابتدائياً وأزلياً، فقد أنسل الله أمَّةَ سام أخير الناس، واختارهم بالنبوة والكتاب، ومنحهم الجمال وجعل فيهم السيادة والأدمة والبياض، وأنزلهم «سرة الأرض» التي هي المرادف الميتولوجي للأرض المقدسة، وأنزل آل قابيل وآل حام إلى «الحضيض» أو اليمن، كما أشار إلى ذلك ابن الأثير، وهو المرادف الميتولوجي للأرض المدنسة.
وسيتوالى هذا التقسيم العنصري في عهد النبي إبراهيم إلى درجة الهوس؛ كما ستتحدد بشكل واضح تلك الأمة الحامية الملعونة التي رأينا أنها تتألف من السودان والبربر والقبط والقوط إلخ كما ستتحدد الأمة المباركة التي أُلّفت من العرب وفارس والروم حيث سيجعل فيهم الإلهُ الكتابَ والجمالَ والأدمةَ والبياضَ. فكيف، إذن، تعامل القصاصون الدينيون مع قصة إبراهيم؟ وكيف أعادوا بناءها، على غرار ما قاموا به مع قصتي آدم ونوح، لكي تتلاءم مع نظرتهم «العنصرية» إلى الإنسان؟ وكيف نظروا، من خلال ذلك، إلى الإنسان الأمازيغي؟ بله وكيف صنعوا له أصولاً في اليمن، أرض «الحضيض» ؟. وهل هذه الأصول بريئة أم أنها تكرس، في العمق، نفس المنحى الإيديولوجي المعبر عنه في الحكايتين السابقتين؟ تلكم هي الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها فيما يلي.
3 ـ هوس الانتماء إلى الفرع السامي
لقد توقفنا في الحكاية السابقة عند حقيقة ميتولوجية مفادها أن نوحاً ينتمي إلى الأسرة «الشيثية» (نسبة إلى شيث) الرعوية المباركة التي وصاها آدم بعدم مخالطة آل قابيل، ومنحها الوصية (النبوة) التي توارثوها أباً عن جد إلخ. وتوقفنا أيضاً عند حقيقة ثانية مفادها أن أبناء نوح من حام قد لُعنوا اللعنة الأبدية، وأُخرجوا نهائياً من رحمة الله، لخطيئة ارتكبها أبوهم لما نظر إلى عورة والده، أو لما قَطَّ عضوه كما تذهب إلى ذلك الرواية التوراتية!. وسنرى الآن أن سيدنا إبراهيم لن يخرج بدوره عن هذه الخطاطة الأصلية لحكايتي آدم وأبنائه ونوح وأبنائه. فهو بدوره سينتمي إلى العائلة المباركة التي بوركت منذ الأزل؛ إنه، كما يورد ابن الأثير، «إبراهيم بن تارخ بن ناخور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن غابر بن شالخ بن قينان بن أرفخشذ بن سام بن نوح، عليه السلام.»34 «ومولده كان في زمن النمروذ بن كنعان»35. ويؤكد ابن كثير، في هذا الصدد، أن الله سبحانه وتعالى وهب إبراهيم الأولاد الصالحين، «وجعل في ذريته النبوة والكتاب، فكل نبي بعث بعده فهو من ذريته، وكل كتاب نزل من السماء على نبي من الأنبياء من بعده فعلى أحد نسله وعقبه، خلعة من الله، وكرامة له»36. وأما بالنسبة لآل حام فإنهم لن يلدوا إلا أعتى الطغاة وأعتى العصاة وأعتى الكافرين؛ هكذا، إذن، سينجب المصريون الفراعنة، والفلسطينيون عوجاً37، والأمازيغ جالوتاً والبابليون نمروداً بن كوش38 الكنعاني39 «أول جبار في الأرض»»40. (11-11 التكوين 10) والإغريق ذا القرنين الكافر41 الذي اتخذ له الفلاسفة مستشارين.
تلكم، إذن، هي الصورة التي يحملها مخيال آل سام عن آل حام، إنها صورة «قابيل» – الشيطان الذي عادى نبي الله آدم، وقتل نبي الله هابيل، وصورة الفرعون الكنعاني الذي عادى نبي الله موسى السامي، وصورة النمرود (أي المتمرد في اللغة العبرية) الكنعاني الذي عادى نبي الله إبراهيم السامي، وصورة جالوت الأمازيغي الكنعاني الذي عادى نبي الله طالوت وداود الساميين إلخ. وأما صورة السامي عن نفسه، فهي الصورة المقابلة، والمناقضة تماماً لصورة آل حام. إنها صورة هابيل (هبل) / الإله الذي عبده عرب الجاهلية (عبادة الأب)، وصورة إدريس الذي كان أول من سن سنة قتل آل قابيل واستعبادهم وسبي نسائهم، واستحلال أموالهم وفروج نسائهم؛ وهي صورة سام المبارك الذي غطى سوءة والده، فجعله سيداً على آل حام؛ وهي أيضا صورة إبراهيم الراعي الذي بارك ابنيه إسحق وإسماعيل، فولد له الأول بني إسرائيل المباركين، وجعل منهم الإله شعب الله المختار؛ وولد له الثاني الشرفاء العرب42، وجعل منهم سادة على العالمين.
وقد كان لهذا التفضيل الإلهي للساميين على الحاميين ثمناً كبيراً سيؤديه هؤلاء الأخيرين للأوائل. إذ نتيجة للتدافع التاريخي، ولقحط شبه الجزيرة العربية، ولاعتماد الساكنة على مهنة الرعي، بالدرجة الأولى، ولانغراسهم في ثقافة بدوية غازية لم تعرف أبداً شأو التقدم الذي عرفته الحضارات الزراعية لدى السومريين والفلسطينيين والمصريين إلخ فإن هذه الشعوب الرعوية ستبحث لها عن منافذ جديدة بحثاً عن أراضي خصبة وغنية تغنيها عن شظف العيش. فكان أن اصطدموا بالحضارات التي سُميت، منذ ذلك الحين، حضارات حامية؛ ونظراً لقوة هذه الحضارات، ولاعتمادها على الزراعة، وعلى جيوش منظمة، ولإحاطة مدنها بالأسوار، فقد ظلت القبائل الرحالة من أكادية وعبرية وعربية تائهة لقرون طويلة، متنقلة وباحثة لها عن مستقر، مغيرة تارة على هذه المدينة، أو قاطعة الطريق على تلك القافلة التجارية. وخلال هذه الفترة الطويلة ستنتج هذه الجماعات ما يمكن أن نسميه بثقافة الكره، مراكمة لمعتقد ديني مفاده أن كل الأراضي الخصبة التي في أيدي هؤلاء المستقرين داخل مدنهم، إنما هي من حقهم، ولا بد أن يأخذوها منهم لأن الله وعدهم بها (الأرض الموعودة)43. هكذا، إذن، ستشكل مرحلة إبراهيم مرحلة اغتصاب الأراضي، وسيشترط الإله على المؤمنين ليعفو عنهم طرد الساكنة الحامية، وأخذ مكانهم. ففي سفر الخروج، مثلاً، يأمر الإله بني إسرائيل «أن يطردوا سكانها الأصليين، ولا يقطعوا معهم عهدا» (سفر الخروج 23: 31-33). وفي التكوين أيضاً نقرأ: «وقال الرب لأبرام [أي إبراهيم] بعدما فارقه لوط: ارفع عينيك وانظر من الموضع الذي أنت فيه شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، فهذه الأرض كلها أهبها لك ولنسلك إلى الأبد» ( 15 – 13 التكوين)، وفي موضع آخر من نفس المرجع نقرأ: «وقطع الرب مع أبرام عهداً، قال: «لنسلك أهب هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات» ( 17 – 15 التكوين). ويبدو أن المسلمين قد استحْلَوا هذا القرار الإلهي كما دشنته التوراة، ولذلك سنلاحظ أن ابن كثير سيعيد روايته في مؤلفه البداية والنهاية، حيث يقول:»ثم إن الخليل عليه السلام رجع من بلاد مصر إلى أرض التيمن، وهي الأرض المقدسة التي كان فيها ومعه أنعام وعبيد ومال جزيل، وصحبتهم هاجر القبطية المصرية. ثم إن لوطاً عليه السلام نزح بما له من الأموال الجزيلة بأمر الخليل له في ذلك إلى أرض الغور المعروف بغور زغر، فنزل بمدينة سدوم، وهي أم تلك البلاد في ذلك الزمان، وكان أهلها أشراراً كفاراً فجاراً وأوحى الله تعالى إلى إبراهيم الخليل فأمره أن يمد بصره وينظر شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وبشّره بأن هذه الأرض كلها سأجعلها لك، ولخلفك إلى آخر الدهر، وسأكثر ذريتك حتى يصيروا بعدد تراب الأرض. وهذه البشارة اتصلت بهذه الأمة، بل ما كملت ولا كانت أعظم منها في هذه الأمة المحمدية، يؤيد ذلك قول رسول الله (ص):»إن الله زوى [أي طوى] لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها»44.
هكذا، إذن، ستبدأ مرحلة أخرى من مراحل انتصار السامية على آل كنعان الحاميين. فبعد أن لعنوا في حكاية آدم وأبنائه، وأخرجوا من رحمة الله، سوف يؤسرون ويسبون ويستعبدون في عهد النبي إدريس، وسوف تغير نطفهم فتسْوَدُّ ألوانهم، وتكبر أحجام شفاههم، وأحجام أعضائهم التناسلية، وتتجعد شعورهم، وتقنى أعينهم إلخ في عهد النبي نوح، كما أنهم في عهد النبي إبراهيم سوف يشرعنون دينياً لأخذ أراضيهم، وطردهم منها. فلأن «أهل سدوم [كانوا] أشراراً خاطئين جدا أمام الرب» (ص: 15- 13 التكوين)، فإنه كان لزاماً أن تؤخذ منهم تلك الأراضي الخصبة، ويحولوها إلى مراعي لهم وإلى مستقر لأهاليهم. والفارق الوحيد بين الخطاب التوراتي وخطاب المفسرين الإسلاميين هو أن هذه الأرض الموعودة سيعتبرها العبرانيون حقاً إلهياً لهم، في حين سيعتبرها العرب حقاً لهم، والدليل على ذلك، كما يقول ابن كثير، هي أن هذه الشارة الربانية قد «اتصلت بهذه الأمة [] المحمدية». وهل لنا أن نذكر اليوم أن الصراع المرير القائم بين العرب الفلسطينيين، حفدة الحاميين القدامى، مع الإسرائيليين، ما هو إلا امتداد لصراع قديم يستند أساساً على هذه المقولة الأسطورية التي جعلت الإله يمنح الأرض الموعودة لليهود في سجلهم التوراتي، ثم منحها، في مرحلة تالية للعرب الإسماعيليين، كما هو وارد في إخباريات المفسرين وسدنة الدين.
ولقد كان في الإمكان أن نواصل تحليلنا لحكاية إبراهيم، وأن نبحث عن الأصول الأسطورية لصراع العبرانيين والعرب، ونبحث بالتالي عن تلك الخطاطة الميتولوجية التي أنتجت ذلك الكره الشديد ما بين أبناء إسماعيل وأبناء إسحاق45. ولكن الخوف من الإطالة سيجعلنا فقط نشير إلى أن السبب يعود بالدرجة الأولى إلى تلك الزيجة التي قام بها الأب إبراهيم والتي ندم عليها فيما بعد كما يورد ذلك نص التوراة؛ فمن المعلوم أن هذا النبي عندما وصل إلى مصر46 منحه أحد الفراعنة امرأة حامية اسمها هاجر؛ ولأن الزوجة الأولى، والتي كانت سامية مائة في المائة، كانت عاقراً، فقد أوحت إلى زوجها أن ينكح المصرية وينجب لها منها ولداً. فكان الذي كان، وَوُلِد لإبراهيم من هاجر الكنعانية ابنٌ هو إسماعيل قال عنه التوراتيون أنه كان «رجلاً كحمار الوحش، يده مرفوعة على كل إنسان، ويد كل إنسان مرفوعة عليه، ويعيش في مواجهة جميع إخوته» ( 17-18 التكوين 16)؛ ولأن الأقدار لعبت لعبتها، فإن سارة (الزوجة السامية) ستلد بعد عمر طويل ابنا سامياً هو إسحق. وهنا سنستعيد، مرة أخرى، تلك الخطاطة الأصلية المشار إليها آنفاً. إذ سيعتبر أبناءُ إسحاق أن أبناءَ إسماعيل هم امتداد جزئي للسلالة الملعونة عن طريق الأم، فقد رأوا في تلك الزيجة التي باشرها والدهم بالمصرية امتهاناً للدم السامي الطاهر وتدنيساً له بالدم الحامي الملعون، ولأن القاعدة كما حفظتها الأجيال هي أن تظل الوصية (النبوة) في سلالة آل سام فقط، بحكم خاصيتها العرقية، فإن هذا يعني أن النبوة أصبحت مقصورة على أبناء إبراهيم من سارة دون غيرهم من أبناء هاجر؛ وقد كان إبراهيم صارماً في الحفاظ على هذا الدم «الطاهر»، ذلك لأنه رفض رفضاً باتّاً أن يعيد الخطأ الذي ارتكبه عندما تزوج بهاجر، فقد قال لكبير خدمه ووكيل أملاكه، عندما وصل ابنه اسحق سن الزواج، مستحلفاً إياه بوضع يده تحت فخذه: «ضع يدك تحت فخذي، فأستحلفك بالرب إله السماء وإله الأرض أن لا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين الذين أنا مقيم بينهم، بل إلى أرضي وإلى عشيرتي تذهب وتأخذ زوجة لابني إسحق» (26 التكوين 24)؛ ولما عرض عليه خادمه الذي لم يكن غير أليعازر الكنعاني تزويجه ببنته، أجابه إبراهيم: «أنت أليعازر عبد، وأما إسحاق فحُر، فهل يجتمع الملعونون مع المباركين»؛ وبذلك سيتزوج إسحاق من «بنت أخيه» (28 التكوين 24) السامية، فتحددت السلالة المباركة في مواجهة السلالة الملعونة «جزئياً» وفي مواجهة السلالة الحامية الملعونة كلياً؛ وبطبيعة الحال فإن هذا الحكم القاسي سيثير حفيظة أبناء إسماعيل الذين فهموا اللعبة الميتولوجية التي لم يفهمها الحاميون، وسيدافعون عن أحقيتهم في الاستئثار بالوصية، وبالاحتفاظ بدمهم السامي الطاهر، مما سيجعلهم يعتبرون، سيراً على المنظومة المعتقدية الأبيسية التي يؤمنون بها، أن الأبوة هي الأصل في الانتماء، وهي المرتكز الأساسي في تحديد الأنساب، وأن الأمومة لا دور لها أبداً إلا فيما يتعلق بالحمل والولادة. فالله، كما يقول ابن كثير، قد خلق العباد في صلب آدم قبل أن يخلق حواء، أي قبل أن يخلق المرأة من الضلع، وليس بطن المرأة إلا مكاناً للتصوير، في حين أن الخلق الحقيقي قد وقع في الأزل، أي لما ضرب الإله على الكتف اليمنى لآدم فأنسل الأنبياء والصلحاء والمباركين وذوي البشرة البيضاء، وضرب على الكتف اليسرى فأنسل الطغاة والكفار والمارقين وكل ذي بشرة سوداء. لقد «قال سفيان الثوري عن الأعمش عن منهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن بن عباس، قال: خُلقوا في أصلاب الرجال وصوروا في أرحام النساء»47. وأورد سعد خبرا عن الرسول مرفوعاً إلى أبي هريرة قال فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، ثم جعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور ثم عرضهم على آدم فقال: أيّ رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك»48. وفي حديث آخر رواه أحمد في مسنده عن أبي الدرداء أن الرسول (ص) قال: «خلق الله آدم حين خلقه، فضرب كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الدّر، وضرب كتفه اليسرى، فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في كتفه اليسرى: إلى النار ولا أبالي»49. وبهذا سيصبح الانتماء إلى السامية انتماء إلى نسب أبوي، وتصبح الأمومة مقصاة بشكل كلي من حكاية «الانتساب» (فهي مكان للتصوير فقط وليس للخلق)، بل ويصبح الحكم على الذرية الحامية حكماً أزلياً، فَهُم إلى النار «ولا أبالي»، وتصبح مأثرة الساميين الذين خرجوا من الكتف اليمنى لآدم قراراً إلهياً ابتدائياً ونهائياً، فَهُم «إلى الجنة ولا أبالي». وكل هذا يأتي، بطبيعة الحال، في سياق دفاع العرب من بني إسماعيل عن نسبهم السامي الذي لا يمكن أن يكون إلا أبوياً عكس اليهود الذين يؤكدون على ضرورة الأمومة لاكتمال النسب السامي50.
هكذا، إذن، يمكن لنا أن نفهم الإطار الميتولوجي الذي يتحرك داخله الفكر الإسلامي واليهودي، والذي يشكل، في نظرنا، امتداداً لتدافع حضاري يضرب بجذوره في أعماق التاريخ الديني لشعوب منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط. وسنرى أن هذا الإطار هو الذي سيبنين الصورة التي سيحملها المسلمون عن الأمازيغ، كما أنه سيشكل مرجعاً لإعادة تصنيفهم والبحث لهم عن أصول أسطورية في الشرق بوصفهم امتداداً لعرق عاص ملعون وهارب إلى اليمن (أرض الحضيض).
4 ـ الأصول الحامية للشعب الأمازيغي
لم يكن للأمازيغ، كما ألمحنا، أن يشذوا عن الخطاطة الأسطورية التي قدمنا عناصرها فيما سلف؛ إذ ليس هناك من إخباريي الشرق في القرون الوسطى، على الأقل، من يشكك في أصولهم الحامية. ولقد حاول بعض الأمازيغ أن يدّعوا لأسباب دينية وسياسية، الانتماء إلى الأرومة العربية، هروباً من الوضع المنحط لآل حام، وبحثاً عن المكانة السلالية الاعتبارية التي يحتلها آل سام؛ إلا أن إخباريي السامية، ردوا عليهم بجواب قاطع، فقالوا: لا، إنكم لم تكونوا أبداً ساميين، إنكم وإن كنتم يمنيين فأنتم كنعانيون، بل إن منهم من تجاوز هذا الموقف ليؤكد أن الأمازيغ لا أصل لهم، وأن حواء لم تكن لتلد «البرابر»، وإلا لكان آدم قد طلقها، وهو ما يعني إخراجهم مطلقاً من الفرقتين المتنازعتين (فلا هم أبناء قابيل ولا هم أبناء هابيل / شيث)؛ يقول ياقوت الحموي في هذا الصدد: «أنشدني أبو القاسم النحوي الأندلسي الملقب بالعلم لبعض المغاربة يهجو البربر فقال:
رأيتُ آدم في نومي فقلت له: أبا البرية، إن الناس قد حكموا:
أن البرابر نسل منك، قال: أنا؟ حواء طالق إن كان ما زعموا»
هكذا، إذن، سيتسامح آدم مع حواء لما خانته مع إبليس ومع الحنش، ولكنه لم يكن ليتساهل أبداً معها في ارتكابها لجريمة إنجاب «البرابر». وهي، بطبيعة الحال، إشارة واضحة إلى أن الأمازيغ لا يمكن أن يكونوا أبناءه ولا أبناء حواء؛ بل ولا حق لهم في أن يكونوا حتى أبناء قابيل الملعون؛ وعليه، فقد ذهب الإخباريون، وموزعو صكوك النسب، في أصل هذا الشعب مذاهب مختلفة، فقالوا هم أخلاط من بقايا أجناس لا شجرة لها، ولا أصل لها واضح؛ قال: «الطبري وغيره: البربر أخلاط من كنعان والعماليق؛ وقال مالك بن المرحل: البربر قبائل شتى من حمير ومضر والقبط والعمالقة وكنعان وقريش تلاقوا بالشام ولغطوا فسماهم أفريقش البربر لكثرة كلامهم»51. ولم يقف الأمر عند حدود تحقير نسل الأمازيغ، بل تجاوزه إلى تحقير اللغة التي يتكلمون بها، وهو ما يمكن أن نفهمه من كلمة «ولغطوا فسماهم أفريقش البربر لكثرة كلامهم». وبعودتنا إلى معجم المحيط سنلاحظ أن كلمة «بربر» لا تخرج عن معنى «اللغط» الذي يدل أيضا على الأصوات غير المفهومة التي تصدر عن الحيوانات. يقول ابن خلدون: «يقال بربر الأسد إذا زأر بأصوات غير مفهومة»52؛ وفي المعجم: «بربر المعز أي صوت، وتبربر الرجل: توحش وجفا طبعه». ومن شعر أفريقش الذي يؤكد معنى التوحش والجفاء قوله:
بَرْبَرَتْ كنعانُ لما سُقتُها من أراضي الضنك للعيش الخصيب53.
ومن معاني كلمة بربر في Petit Robert، نجد أيضاً معانى «البدائي» و»المتوحش» و»الأجنبي»54.
وأما الموقف الذي ادَّعاه الأمازيغ للأسباب التي رأينا، فقالوا إنهم عرب عاربة نزحوا من اليمن (أرض الحضيض وقابيل)، فقد كانت في إجابة ياقوت الحموي الكفاية، حيث قال: «فأكثرُ البربر تزعم أن أصلهم من العرب، وهو بهتان منهم وكذب»55. وأكد على هذا الموقف ابن خلدون الذي أورد بدوره أن هناك من يدعي أن البربر:»من ولد إبراهيم عليه السلام من نقشان ابنه»56، وأنهم «يمنيون وقالوا أوزاع من اليمن»57، وهو ادعاء، في نظره أيضاً، و»أبطله إمام النسّابين والعلماء أبو محمد بن حزم» الذي «قال في كتاب الجمهرة: ادعت طوائف من البربر أنهم من اليمن ومن حمير، وبعضهم ينسب إلى بربر بن قيس، وهذا كله باطل لا شك فيه. وما علم النسابون لقيس بن عيلان ابنا اسمه برّ أصلا، وما كان لحمْير طريق إلى بلد البربر إلا في تكاذيب مؤرخي اليمن»58؛ والمتفق حوله، هو أن أصول الأمازيغ حامية - كنعانية، وسواء جاءوا من اليمن أو فلسطين، فهم ملاعين، وستلحقهم اللعنة إلى يوم القيامة. إذ بالإضافة إلى كون العرب اليمنيين «ليسوا من سلالة إسماعيل»59، لكونهم قحطانيين كما يؤكد على ذلك إخباريو آل سام، فإن الثابت هو أنهم حاميون؛ فقد «قيل إن البربر من ولد حام بن نوح بن بربر بن تملا بن مازيغ بن كنعان بن حام. وقال الصولي: هم من ولد بربر بن كسلوجيم بن مصرائيم بن حام»60. «وقال الصولي البكري إن الشيطان نزغ بين بني حام وبني سام، فانجلى بنو حام إلى المغرب ونسلوا به. وقال أيضاً إن حام لما اسْوَدَّ بدعوة أبيه فرّ إلى المغرب حياء واتبعه بنوه وهلك عن أربعمائة سنة. وكان من ولده بربر بن كسلاجيم فنسل بنوه بالمغرب»61، وقيل «البربر فرقتان، وهما: البرانس والبتر فالبتر من ولد برّ بن قيس بن عيلان والبرانس بنو برنس بن سفجو بن أبزج بن جناح بن واليل بن شراط بن تام بن دويم بن دام بن مازيغ بن كنعان بن حام»62؛ ويشدد ابن خلدون على أن «أنسب ما قيل أنهم من ولد القبط بن حام لما نزل مصر خرج ابنه يريد المغرب فسكنوا عند آخر عمالة مصر»63، ولذلك فـإن «الحق الذي لا ينبغي التعويل على غيره في شأنهم أنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح، وأن اسم أبيهم مازيغ وإخوتهم أركيش وفلسطين إخوانهم بنو كسلوجيم بن مصرايم بن حام»64، وهو ما أشار إليه صاحب الاستقصا عندما ذكر أن صاحب «كتاب الجمان في أخبار الزمان» قد أكد على «أن بني حام تنازعوا مع بني سام فانهزم بنو حام أمامهم إلى المغرب وتناسلوا به، واتصلت شعوبهم من أرض مصر إلى آخر المغرب إلى تخوم السودان»65.
الخلاصة التي نخرج بها، إذن، هي أن الأصول اليمنية للأمازيغ لا تعني أبداً أنهم في مستوى إخوانهم من أبناء سام. فهم حتى وإن جاءوا من اليمن أو من الشرق عموماً عن طريق الحبشة وفلسطين إلخ. فإنهم لن يصلوا إلى مكانة الساميين التي هي المكانة السامية للعرق المبارك حصراً. وسيراً على هذه الخلاصة فإن الصورة التي سيحملها المخيال السامي عن الأمازيغ لن تختلف كثيراً عن الصورة التي حملوها عن آل قابيل وآل حام إلا فيما يتعلق بالتفاصيل. وسنحاول في الفقرة الموالية التوقف عند مميزات هذا الشعب كما رسمها هذا القصص الديني، وكما أعيد قراءته في سياق التدافع التاريخي بين شعوب المنطقة.
بقلم: عبد السلام خلف
ي[right]هناك خطاطة أسطورية في التاريخ الإخباري الإسلامي تتم عمليةُ استعادتِها كلما تعلق الأمر بأصول الأمازيغ بشمال إفريقيا. والحقيقة التي يجب تسجيلها، في هذا الصدد، هي أن هذه الخطاطة تحكمها بنية فكرية ميتولوجية تعود، في العمق، إلى الصورة التي ظل الساميون يحملونها عن غير العرب من الشعوب التي تنتمي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط. فمن المعلوم أن كل المخيال الذي تحمله الشعوب العربية عن أصولها تعود، بالدرجة الأولى، إلى تلك القصص التي أوردها الإخباريون، نقلاً عن مظان توراتية أُخذت بدورها عن حضارات الشرق الأوسط وآسيا وشمال إفريقيا وجنوب أوروبا. ولكي نفهم هذا الإلحاح الذي يمتاز به بعض الذين يدَّعون أن أصول الأمازيغ من اليمن، فإنه لا بد، في نظرنا، من الوقوف عند الخلفية الميتولوجية التي تتحكم في هذا الادّعاء. ولم يكن لنا أن نعود إلى هذا الموضوع الذي طرحناه جانباً منذ زمن بعيد، والذي اعتبرناه موضوعاً متجاوزاً لا يستحق المناقشة إلا في إطار أكاديمي، لولا المهاترات الإيديولوجية التي بدأت تظهر مؤخراً على السطح، والتي لم يكن لها من هدف إلا خلق نوع من البلبلة الفكرية للتراجع عن ما تم تحقيقه للغة الأمازيغية وثقافتها، بل إن لم يكن من أجل إقبار هذه اللغة وهذه الثقافة اللتين تعيشان، للأسف الشديد، آخر أيامهما في ظل سياسة عروبية ممنهجة، يعقوبية، إقصائية ومدمرة.
والجدير بالذكر أن مقاربتنا للموضوع ليست مقاربة تاريخية، ولكنها مقاربة ذات أبعاد أنتروبولوجية تستعيد القصص الديني الذي اتُّخذ دائماً مرتكزاً لتأكيد «تاريخية الأصول»، ولتأويل مضامينها كي تخدم أغراضاً إيديولوجية واضحة. ومن هنا فإن المقاربة لا تعالج القصص في علاقتها بحجية الأحداث التاريخية، كما لا تعالجها بوصفها نصوصاً من إنتاج الوحي القرآني. إذ أن هدفنا ليس هو التوقف عند الحدث التاريخي ولا التوقف عند القصة القرآنية، وهو مشروع آخر يستحق البحث، ولكن الهدف الأساسي منه هو التوقف عند القصة الدينية عموماً في تعالقها مع التحولات الفكرية والمعتقدية والسياسية لشعوب ظلت تستعمل الدين من أجل تحقيق غايات الهيمنة العرقية والثقافية والحضارية، والتي تم استرجاعها، للأسف، مع ظهور القومية العربية والتيارات الإسلاموية. ولهذا أرجو من القارئ الكريم أن يتتبع معي، بقليل من الصبر، مراحل هذه الأسطورة – الأصل التي تحولت إلى «حقيقة تاريخية وقرآنية»، وجعلت من الأمازيغ شعباً ذا أصول يمنية.
1ـ الأصل الميتولوجي وانقسام البشر
من المعلوم أن كل الديانات السماوية تتفق حول حقيقة ميتولوجية واحدة مفادها أن أصل الإنسان من الجنة؛ فالله –كما هو معلوم- خلق آدم من التراب، وخلق منه زوجه حواء التي أغرته بالأكل من الشجرة، فأودت به في مهاوي الانحطاط الأرضي السحيق. هذه هي القصة الأولى كما وقعت، وهذا هو التبرير الأسطوري الذي يُعطى عادة لتفسير المأساة التي يعيشها الإنسان اليوم. إن السبب في خروج الإنسان من الجنة هي المرأة. ولكن الحقيقة الميتولوجية الثانية التي تُفصح عنها مختلف المظان الإخبارية لمفسري الكتب المقدسة، هو أن الإنسان ليس له نفس الجوهر؛ فهو معادن، منه الخبيث والطالح ومنه الطاهر والصالح. منه من له أب مبارك مقدس، ومنه من له أب ملعون مدنس. ومرة أخرى ستلعب المرأة في هذا التمييز بين الجواهر الإنسانية دوراً أساسياً. ففي الزمن الابتدائي تؤكد التوراة، ومختلف التفاسير الدينية الإسلامية، أن سيدنا آدم لما قضى حاجته من زوجته حواء، استلقى إلى جانبها، و»استسلم لداعي الكرى»1؛ ولما كانت حواء زائغة العين، فإنها استقبلت إبليساً الذي حل بأحضانها، فدعاها إليه، و»استجابت له، فحبلت بقايين [قابيل]»2. وهذه هي الخطيئة الثانية التي سترتكبها أمنا حواء؛ فبعد أن تسببت في معاناة أبينا آدم، وعبره في معاناة البشرية جمعاء، بإنزالها لنا من السماء إلى الأرض، ها هي ذي تخونه في وضح النهار دون أن يشعر، وهو الغاط في نومه؛ ومع من؟ مع إبليس أو سامائيل كما تنص على ذلك التوراة. وللأسف فإن المسلمين سيتلقفون هذه الرواية لكي يؤكدوا بدورهم على هذه الخطيئة الأصلية الثانية للمرأة، ولكي يبرروا من خلالها لذلك التدافع العنصري بين آل هابيل وآل قابيل كما سنرى. إذ يروي الإمام أحمد، بدوره، حديثاً مشابهاً رفعه إلى الرسول يقول فيه: «لما وَلَدَتْ حواءُ طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سميه الحارث، فإنه يعيش، فسمته الحارث فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره»3. والحارث في جميع المصادر والمظان الإسلامية هو ذلك المزارع الذي يتماهى شكلاً ومضموناً مع شخص إبليس، فهو من وحي الشيطان وأمره. ونتيجة لهذه الخيانة الابتدائية التي اقترفتها حواء، ونتيجة كذلك لأكلها من الشجرة التي أبدت لها ولزوجها سوءتيْهما، يروي البخاري حديثاً عن أبي هريرة عن النبي قال فيه: «لولا بنو إسرائيل لم يخْنزِ اللحم، ولولا حواء لم تَخُن أنثى زوجها»4.
إن هذه القصة تؤكد لنا، إذن، على شيئين أساسيين: أولاهما أن قابيل ليس ابناً لآدم؛ فهو كما تؤكد الأسطورة ابنٌ لإبليس ولحواء التي استجابت لداعي الزنا فخانت، كما استجابت له لما كانت في الجنة، أي لما كان إبليس يتلبس شكل الحنش. فقد سبق لها أن باشرت علاقات جنسية محرمة مع حية الفردوس مما تسبب لها في الدورة الشهرية؛ وإلى ذلك تشير التوراة، نقلاً عن التراث الفارسي، إذ ذَكَرت «أن المرأة الأولى ضاجعتها حية، فحصلت العادة الشهرية مباشرة، بعد العملية الجنسية»5؛ وأما الشيء الثاني، الذي تؤكد عليه القصة، فهو أن كل الأبناء الذين سيشكلون السلالة «القابلية» (نسبة إلى قابيل) سينتمون بالضرورة إلى الجد أو الأب الأول «إبليس»، أي إلى السلالة التي يتميز «جوهرها» بالدنس والانحطاط. هكذا، إذن، ستتشكل الجماعة الأولى من «المجرمين» الذين يسكنهم الأبالسة والذين سوف يرسل إليهم الإله مختلف الرسل لكي يردوهم عن غيهم إلى الطريق القويم. وتجدر الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن حواء التي ولدت قابيلاً (اللقيط) ستلد لها ابناً آخر من صلب أبيه آدم، والذي سيسميه باسم «هابيل»، هذا الذي سيتحول عند عرب الجاهلية إلى الإله «هبل» سيراً على عادة عبادة الأجداد في الثقافات التيولوجية الأبيسية. وحسب كل الروايات الأسطورية المروية، في هذا الإطار، فإن الفتى «هابيل» كان أحب إلى أبيه من قابيل؛ بل وهذا ما تؤكده قصة الخلق الأولى للبشرية؛ فقد جاء في الأثر أن هابيلاً الراعي كان لا يرد لأبيه أمراً، فقد كان مطيعاً له، مستجيباً، عكس قابيل المزارع الذي كان يعصي أوامره؛ والفاجعة التي ستشكل الخطيئة الثالثة هي عندما سيعصى هذا الكائن «الإبليسي» المنحط (قابيل) أوامر والده في عدم الزواج بأخته التي هي من نفس البطن الذي هو منه (لقد كان يريد الزواج من توأمته)؛ فقد كان آدم يريد أن يزوج هذه الفتاة التي كانت أجمل أخواتها من ابنه هابيل، ويزوج الذميمة لقابيل، تفضيلاً للأول على الثاني. ولما تأكد لهذا الأخير أن والده يفضل عليه أخاه، وأن الفتاة الأجمل التي يحبها قلبه لن تكون له، وأن الله قد فصّل في الأمر بتقبُّله القرابين الدموية (بقرة أو كبش) التي قدمها له هابيل، وأنه تعالى قد لفظ قرابينه الزراعية (مزروعات وخضر) التي تقدم بها هو، فإنه سيقرر اغتيال أخيه، وقتله في المرعى ثم الهروب بأخته-الزوجة التي نزلت معه إلى السهل6 أو إلى اليمن كما يؤكد ابن الأثير7. ومرة أخرى ستظهر لنا المرأة سبباً في المأساة الإنسانية، معمقة الخطيئتين الأوليين بخطيئة ثالثة ستكون سبباً في افتراق الإخوة.
وسيشكل موت هابيل كارثة كوسمولوجية كبرى، ليس فقط لأن هذا الفتى كان أعز الأبناء عند آدم، ولكن أيضاً لأن واقعة الموت ستمأسس لقطيعة أبدية بين شعبين: أحدهما مطيع للوالد، منفذ لأوامره (المجتمع الأبيسي)، وثانيهما متمرد عليه، وملعون من طرف الإله (المجتمع الأميسي). هكذا، إذن، ستمنح القصة الميتولوجية لقابيل أبناءً هم أقرب إلى الأبالسة منهم إلى البشر؛ فهم أول من عصى الإله، وهم أول من رقص وغنى، وهم أول من صنع أدوات الموسيقى وبرعوا في استعمالها8، وهم أول من بنى وأعلى البنيان وسكن القباب، وهم أول من صنع الصنائع وعمل النحاس والحديد، وهم أول من ضرب الصنج والونج9، وهم أول من سن لسنة الاختلاط بين الرجال والنساء، وعبدوا النار10 وكانوا فراعنة وجبابرة11 وهم أول من سكن «الحضيض» أو بلاد اليمن إلخ.. وهذه كلها تهم «خطيرة» تودي بأصحابها إلى جهنم والعياذ بالله. وأما بالنسبة لآدم، فإن الله سيرزقه بابن آخر هو أشبه بأخيه، سماه شيثاً؛ وقد كان هذا الابن الثالث مطيعاً لأبيه، ممارساً لمهنة الرعي، بدوياً في أخلاقه وسلوكاته، رافضاً للحضارة الزراعية. ولأنه كان على الضد من أخيه قابيل فإن والده أوصى له بوصية النبوة التي أقسم الإله أنها لن تخرج من نسله أبدأ. فأكثر الله سلالته، وجعلها وفيرة، وخصها بالنبوة، فمنها الرسل والأنبياء والصلحاء والمباركن إلخ ومن سلالة أخيه قابيل يتحدر الكفار والطغاة والعصاة والمارقون، فمنهم الفراعنة ومنهم الجبابرة ومنهم الطغاة12 إلخ. «قال ابن عباس: ولد لشيث أنوش وولد معه نفر كثير، وإليه أوصى شيث، ثم ولد لأنوش بن شيث ابنه قينان من أخته نعمة بنت شيث بعد مضي تسعين سنة من عمر أنوش، وولد معه نفر كثير، وإليه الوصية، وولد قينان مهلائيل ونفرا كثيرا معه. وإليه الوصية، وولد مهلائيل يرد، وهو اليارد، ونفرا معه، وإليه الوصية، فولد يرد حنوخ، وهو إدريس النبي، ونفرا معه، وإليه الوصية، وولد متوشلخ ونفرا معه، وإليه الوصية»13.
هكذا، إذن، ستقتصر الوصية أو النبوة على سلالة واحدة، وهي سلالة آل شيث الرعاة الذي لم يصنعوا لهم صناعة، ولم يعلو لهم بنياناً، ولم يشعلوا لهم ناراً، ولم يحرثوا لهم أرضاً؛ ولم يكن الأمر ليتوقف عند هذا الحد، بله إن أبانا آدم سيلعن ذرية قابيل ويخرجهم من رحمة رب العالمين إلى الأبد، وسيوصي أبناءه من «شيث» فلا يخالطوهم، وإن اقتضى الأمر أن يأسروهم ويقتلوهم ويستعبدوهم ويسْبوا نساءهم. وهذا ما سيقوم به النبي إدريس، هرمس الهرامسة14، تنفيذاً للوصية15؛ فقد قيل إنه هو «أول من سبى من ولد قابيل بن آدم فاسترق منهم، وكان وصي والده «يرد» فيما كان آباؤه وصّوْا به إليه، وفيما أوصى بعضُهم بعضاً. ودعا إدريس قومه ووعظهم وأمرهم بطاعة الله تعالى ومعصية الشيطان وأن لا يلابسوا ولد قابيل»16، أي أن لا يختلطوا بهم ويتخذوهم أهلاً. لكن يبدو أن الوصية لم تُنفذ بحذافيرها مما أدى إلى نزول بعض من أبناء شيث إلى السهل، فأعجبوا بالنساء الجميلات المشرعات من بنات قابيل، فجالسوهن وراقصوهن وفعلوا بهن ما يفعل الرجال بالنساء، وشربوا الخمرة17 إلخ. وأمام «هول» الاختلاط، ونسيان الإنسان لأمر السماء، سيرسل الإله إليهم النبي نوح الذي سيفقد الأمل في تغيير ما هم عليه، فيدعو عليهم جميعاً ويهلكهم الطوفان كما يعلم الجميع. ولم يكن في الإمكان لهذا النبي أن يكون، كما هو معلوم، من غير سلالة شيث. فقد وَلَدَ إدريسٌ (الذي هو الابن السادس لآدم) «متوشلخ»؛ «ثم نكح متوشلح عربا ابنة عزازيل بن أنوشيل، فولدت له لمك، فكان يعظ قومه وينهاهم عن مخالطة ولد قابيل»18، ثم تزوج لمك قينوش «فولدت له نوح بن لمك، وهو النبي؛ ونكح نوح بن لمك عزرة فولدت له ولده ساما ًوحاماً ويافث»19. هكذا، إذن، سيكون النبي إدريس هو الجد الثالث للنبي نوح، تماماً كما سيكون آدم هو الجد السادس للنبي إدريس. فهم من نفس السلالة المباركة، ومن نفس العرق المقدس الذي يمتد عميقاً في جينيالوجيا النبوة. وهل في الإمكان أن يلد أبناء قابيل نبياً وقد شملتهم اللعنة منذ الأزل؟
وإلى هذا الحد ستبدو لنا الحكاية، كما لو أنها تميز بين الخير والشر استناداً إلى معايير أخلاقية بدوية لجماعة بشرية مغرقة في البداوة. وهو أمر نجده لدى الكثير من الشعوب. غير أن الجوهري في هذا التمييز هو ذلك المعنى الإيديولوجي، أو إن شئنا الدقة «المعنى العنصري»، الذي يتخفى في المعنى الميتولوجي، والذي يصنف العالم إلى فئتين: فئة مباركة ومرضي عليها منذ الأزل وإلى الأبد، وفئة مغضوب عليها وملعونة منذ الأزل وإلى الأبد. فنحن أمام قصة تمأسس للنسب الأبيسي المتعالي انطلاقاً من مفهوم الأبوة المقدسة لآدم، وتجرِّم الأبوة المدنسة (الشيطانية) التي هي الوجه الآخر للأمومة المنحطة والملعونة. ويتمخض عن هذا أن الجماعة الوحيدة التي تستحق الاستمرار، والاعتزاز بالانتساب إلى أبيها الأول إنما هي الجماعة الأبيسية التي يشكل فيها النبي نوح آخر عناقيدها المقدسة؛ وأما الجماعة الثانية فإنها لا تستحق هذا الاستمرار، ولذلك كانت نهايتها مأساوية (الإغراق بالطوفان). ولم يأت العقاب هنا تتويجاً لما ارتكبته الجماعة «القابلية» (أبناء وبنات قابيل) من معاصٍ ومناكر (الصناعة والبناء والزراعة والموسيقى والاختلاط وشرب الخمر) كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكنه جاء، في الأصل، لأن قابيلاً لا أب له شرعي، أو لأن له أباً شيطاناً (ابن زنا)، أو أيضاً لأنه (وليس الأبناء) قتل أخاه هابيلاً واستولى على أخته ولأن الله فضّل عليه هابيل منذ الأزل.
نخلص من هذا إلى أن جماعة قابيل قد انتهت من الوجود، وأن الجماعة المقدسة هي التي استمرت بعد أن رعاها الإله، وحملها في السفينة. لكن الذي تجدر الإشارة إليه، هو أن حكاية النبي نوح لن تكون في النهاية سوى استعادة لنفس القصة ولنفس المنطق الميتولوجي (الإيديولوجي) لحكاية آدم وأبنائه الثلاثة (قابيل وهابيل وشيث)؛ والفرق الوحيد بين الحكايتين هو أن حكاية نوح سوف تُعَيِّن، بما لا يدع مجالاً للتأويل، مَنْ هم هؤلاء الملعونون، ومن هم أولئك المبارَكون. وبصيغة أخرى فإن حكاية نوح ستنقل الصراع من المتخيل لكي تمنح له مضموناً واقعياً يجعل للملعونين أوصافاً تختص بها وتُعرف بها شعوب محددة بحوض البحر الأبيض المتوسط، وتجعل للمباركين أوصافاً أخرى تختص بها وتُعرف بها أيضاً جماعات بشرية تميزت تاريخياً بصراعها الدائم مع الشعوب الأولى. ولكي نفهم أكثر هذا المضمون الواقعي للحكاية علينا أن نخوض في الحكاية التالية لنوح وأبنائه.
2 ـ الأصل الميتولوجي للساميين والحاميين
لا تعدو أن تكون حكاية نوح وأبنائه، كما أشرنا، استعادة لحكاية آدم وأبنائه. فكما أن آدم كان له ثلاثة أبناء هم قابيل وهابيل وشيث، سيكون لنوح بدوره ثلاثة أبناء هم سام وحام ويافث. وإذا كانت حكاية آدم لا تسمي الشعوب التي كانت موضع الصراع إلا رمزاً (المزارعون الذين كان يُرمز لهم بقابيل، والرعاة الذين كان يُرمز إليهم بهابيل)، أو من خلال الإشارة إلى أن قابيل قد هبط إلى اليمن، فإن حكاية نوح ستسميهم بأسمائهم؛ فقد أورد وهب بن منبه حديثاً فصَّل فيه سلالة آل سام وسلالة آل حام وسلالة آل يافث. قال وهب بن منبه: «إن سام بن نوح أبو العرب وفارس والروم، وإن حاماً أبو السودان، وإن يافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج20. وقيل: إن القبط من ولد قوط بن حام»21. ولأن التمييز هنا مبني أساساً على الخلفية الميتولوجية لتشكل الأعراق، ولتخالف وتفاضل جواهر الأجناس الإنسانية، فقد كان لا بد من تبرير ديني لهذا التفاضل، بحيث سنلاحظ استعادة حرفية لخطاطة التمييز بين الأمة الملعونة والأمة المباركة كما رأيناهما في حكاية آدم وأبنائه. والتبرير الديني هنا هو العصيان، فكما عصى قابيل أباه سيعصى حام أباه أيضاً. إنه سيعلن استهانته بواقعة الأبوة بوصفها قيمة خلاقة، ويقدم على أمر «شنيع» تجلى في استهزائه بعورة الأب وبقضيبه الذي يرمز في المعتقدات الأبيسية إلى أصل العالم. وهو ما استدعى الدعوة عليه ولعنه تماماً كما فعل آدم مع ابنه قابيل. نحن إذن، أمام نفس السيناريو ونفس العمق الميتولوجي لانبثاق الأمتين؛ ويفسر بن المنبه حكاية اللعنة التي شملت حاماً ونسله كما يلي: «وإنما كان السواد في نسل حام لأن نوحا نام فانكشفت سوأته فرآها حام فلم يغطها، ورآها سام ويافث فألقيا عليه ثوبا، فلما استيقظ علم ما صنع حام وإخوته فدعا عليهم.»22. وكما لا يني يشرح المفسرون هذه الواقعة فإن «السواد» هو «مسخ» لعرق محدد عقاباً له على أمر مشين أتاه أبوهم. وتذهب الروايات التوراتية إلى أبعد مما أوردته الروايات الإسلامية، فقد ذكرت أن سبب هذا المسخ لا يعود فقط إلى أن حاماً شاهد عورة أبيه ولم يسترها، بل يعود إلى أنه تقدم من والده، وهو نائم، فـ « ضفر حبلاً على شكل أشنوطة ثم شده على أعضاء جده التناسلية، حتى أخصاه، فلعنه أبوه قائلا: «الآن بات متعذراً علي إنجاب ابن رابع كنت أريده أن يقوم على خدمتك أنت وأخويك. فليكن كنعان ابنك البكر عبداً لهما. ولأنك حرمتني من ممارسة الفعل الشنيع في سواد الليل، سيولد أبناء كنعان سوداً ذميمي الخلقة! وسيكون شعر أحفادك جعداً، وستكون عيونهم قانية، لأنك لويت عنقك لتتطلع إلى عريي، ولأن شفتيك ابتسمتا لمصيبتي، فستغلظ شفاه أحفادك، ولأنك لم ترع حرمة عريي، فسيكتب على أحفادك أن يعيشوا عراة، وستكون أعضاء الذكور منهم طويلة على نحو يثير الاشمئزاز»23. هكذا، إذن، سوف تعاقَب سلالة كنعان ابن حام تماماً كما عوقبت سلالة قابيل، وهذا ليس لجرم اقترفوه هم، ولكن لأن الجرم ارتكبه آباؤهم!. و»لهذا – يقول ابن كثير- دعا [نوح] عليه أن تغير نطفته، وأن يكون أولاده عبيداً لإخوته»24، «فقال: «ملعون كنعان! عبداً ذليلا يكون لإخوته». وقال: «تبارك الرب إله سام، ويكون كنعان عبداً لسام. ويزيد الله يافث، فيسكن في خيام سام ويكون كنعان عبدا له !» (11 التكوين 9)25. ويضيف النيسابوري، في هذا الصدد، حديثا آخر نقله عن عطاء، قال فيه: «ودعا نوح على حام أن لا يعدو شعر ولده آذانهم، وحيثما كان ولده يكونون عبيداً لولد سام، ثم يزيد مجاملاً مؤكداً لأهل التوراة فضلهم، فيقول: «ولما حضرته الوفاة (يقصد نوحا) أوصى إلى ابنه سام، وجعله ولي عهده»26، ثم إن جبريلاً نزل إلى نوح، «فقال له: يا نوح إنه قد انقضت نبوتك واستكملت أيامك، فانظر الاسم الأكبر وميراث العلم فادفعها إلى ابنك سام، فدفع عليه السلام آثار النبوة إلى ابنه سام، فأما حام ويافث فلم يكن عندهما علم ينتفعان به»27؛ و»رفع نوح يديه إلى السماء يدعو ويقول: اللهم غيِّر ماء صلب حام حتى لا يولد له إلا السودان [...] جميع البيض سواهم من سام، وقال عليه السلام لحام ويافث: جعلت ذريتكما خولاً أي خدما لذرية سام إلى يوم القيامة»28.
هكذا، إذن، سيكون الحكم نهائياً وغير قابل للاستئناف. فقد حكم الله، بعد أن رُفِعت أكفُّ نوح إلى السماء تلعن السلالة الحامية. ولذلك اختفت النبوة (الوصية / ميراث العلم) تماماً من ذرية حام – المزارع، ودُفعت إلى ذرية سام – الراعي بشكل نهائي وأبدي. والأدهى من كل هذا هو أن هذا الحكم الأزلي سيجعل من أبناء حام خولاً أي عبيداً لآل سام بعد أن تغيرت خلقتهم، واسودت نطفهم، وأصبحوا أشبه بـ»حيوانات» كما يورد المفسرون وكما أورد ذلك ابن خلدون29. إننا هنا، إذن، أمام تقسيم عنصري، يعترف بالانتماء إلى نفس الأب ( قد يكون نوحاً أو قد يكون آدم)، ولكنه يجعل لكل قسم جوهراً ومعدناً، كما يبرر، من خلال ذلك، للهيمنة والاستغلال والاستعباد، بل وللجهاد من أجل السبي والقتل والأسر وأخذ ما في أيدي الناس. وتظل مع ذلك سلالة يافث موضعاً للغموض؛ إلا أن تتبعنا لمختلف الروايات الأسطورية قد جعلنا نلاحظ أن الأسطورة قد وضعت لهؤلاء نسباً أبوياً أرقى من نسب الحاميين، فقد رضي عليهم نوح، ومن خلاله الإله، فجعل منهم أمة تسكن في خيام سام، فهم تارة الترك والصقالبة ومغل المغول وتارة قبيل ياجوج وماجوج، وتارة أخرى هم نتاج لعلاقة جنسية غير واعية باشرها آدم في غياب الأم، فاختلطت نطفته بتراب الأرض، فأنتج سلالة يافث. يقول ابن كثير: «إن يأجوج وماجوج خلقوا من نطفة آدم حين احتلم فاختلط بتراب فخلقوا من ذلك، وأنهم ليسوا من حواء»، وأنهم «مغل المغول»؛ وينسب إلى الرسول قوله أن «من ورائهم ثلاث أمم: تاويل وتاريس ومنسك»30. وفي كل الحالات، ورغم تقاطع سلالة الترك والصقالبة وياجوج وماجوج ومغل المغول بسلالة آدم ونوح، فإن آل يافث أعلى درجة من الحاميين الذين لم يُخلقوا إلا ليُستعبدوا ويقتَّلوا ويُسبوا وتُؤخذ أموالهم، وهم (أي آل يافث) أدنى درجة من الساميين الذين اختار الإله سلالتهم لكي يبث فيها الأنبياء والرسل والصلحاء والأسياد والأنقى دماً وعرقاً. يقول ابن سعد في هذا الصدد: «وَلَدُ نوح ثلاثة: سام، وحام، ويافث، فوَلَدَ سامٌ العرب وفارس والروم، وفي كل هؤلاء خير، وولد حام السودان والبربر والقبط، وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج»31 «ولا خير فيهم»32، ثم يضيف: «فنزل بنو سام المجدل سُرّة الأرض، وجعل الله النبوة والكتاب والجمال والأدمة والبياض فيهم»33. وهو ما يعني أن قرار التفضيل، كما رأينا، كان قراراً سماوياً ونهائياً وابتدائياً وأزلياً، فقد أنسل الله أمَّةَ سام أخير الناس، واختارهم بالنبوة والكتاب، ومنحهم الجمال وجعل فيهم السيادة والأدمة والبياض، وأنزلهم «سرة الأرض» التي هي المرادف الميتولوجي للأرض المقدسة، وأنزل آل قابيل وآل حام إلى «الحضيض» أو اليمن، كما أشار إلى ذلك ابن الأثير، وهو المرادف الميتولوجي للأرض المدنسة.
وسيتوالى هذا التقسيم العنصري في عهد النبي إبراهيم إلى درجة الهوس؛ كما ستتحدد بشكل واضح تلك الأمة الحامية الملعونة التي رأينا أنها تتألف من السودان والبربر والقبط والقوط إلخ كما ستتحدد الأمة المباركة التي أُلّفت من العرب وفارس والروم حيث سيجعل فيهم الإلهُ الكتابَ والجمالَ والأدمةَ والبياضَ. فكيف، إذن، تعامل القصاصون الدينيون مع قصة إبراهيم؟ وكيف أعادوا بناءها، على غرار ما قاموا به مع قصتي آدم ونوح، لكي تتلاءم مع نظرتهم «العنصرية» إلى الإنسان؟ وكيف نظروا، من خلال ذلك، إلى الإنسان الأمازيغي؟ بله وكيف صنعوا له أصولاً في اليمن، أرض «الحضيض» ؟. وهل هذه الأصول بريئة أم أنها تكرس، في العمق، نفس المنحى الإيديولوجي المعبر عنه في الحكايتين السابقتين؟ تلكم هي الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها فيما يلي.
3 ـ هوس الانتماء إلى الفرع السامي
لقد توقفنا في الحكاية السابقة عند حقيقة ميتولوجية مفادها أن نوحاً ينتمي إلى الأسرة «الشيثية» (نسبة إلى شيث) الرعوية المباركة التي وصاها آدم بعدم مخالطة آل قابيل، ومنحها الوصية (النبوة) التي توارثوها أباً عن جد إلخ. وتوقفنا أيضاً عند حقيقة ثانية مفادها أن أبناء نوح من حام قد لُعنوا اللعنة الأبدية، وأُخرجوا نهائياً من رحمة الله، لخطيئة ارتكبها أبوهم لما نظر إلى عورة والده، أو لما قَطَّ عضوه كما تذهب إلى ذلك الرواية التوراتية!. وسنرى الآن أن سيدنا إبراهيم لن يخرج بدوره عن هذه الخطاطة الأصلية لحكايتي آدم وأبنائه ونوح وأبنائه. فهو بدوره سينتمي إلى العائلة المباركة التي بوركت منذ الأزل؛ إنه، كما يورد ابن الأثير، «إبراهيم بن تارخ بن ناخور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن غابر بن شالخ بن قينان بن أرفخشذ بن سام بن نوح، عليه السلام.»34 «ومولده كان في زمن النمروذ بن كنعان»35. ويؤكد ابن كثير، في هذا الصدد، أن الله سبحانه وتعالى وهب إبراهيم الأولاد الصالحين، «وجعل في ذريته النبوة والكتاب، فكل نبي بعث بعده فهو من ذريته، وكل كتاب نزل من السماء على نبي من الأنبياء من بعده فعلى أحد نسله وعقبه، خلعة من الله، وكرامة له»36. وأما بالنسبة لآل حام فإنهم لن يلدوا إلا أعتى الطغاة وأعتى العصاة وأعتى الكافرين؛ هكذا، إذن، سينجب المصريون الفراعنة، والفلسطينيون عوجاً37، والأمازيغ جالوتاً والبابليون نمروداً بن كوش38 الكنعاني39 «أول جبار في الأرض»»40. (11-11 التكوين 10) والإغريق ذا القرنين الكافر41 الذي اتخذ له الفلاسفة مستشارين.
تلكم، إذن، هي الصورة التي يحملها مخيال آل سام عن آل حام، إنها صورة «قابيل» – الشيطان الذي عادى نبي الله آدم، وقتل نبي الله هابيل، وصورة الفرعون الكنعاني الذي عادى نبي الله موسى السامي، وصورة النمرود (أي المتمرد في اللغة العبرية) الكنعاني الذي عادى نبي الله إبراهيم السامي، وصورة جالوت الأمازيغي الكنعاني الذي عادى نبي الله طالوت وداود الساميين إلخ. وأما صورة السامي عن نفسه، فهي الصورة المقابلة، والمناقضة تماماً لصورة آل حام. إنها صورة هابيل (هبل) / الإله الذي عبده عرب الجاهلية (عبادة الأب)، وصورة إدريس الذي كان أول من سن سنة قتل آل قابيل واستعبادهم وسبي نسائهم، واستحلال أموالهم وفروج نسائهم؛ وهي صورة سام المبارك الذي غطى سوءة والده، فجعله سيداً على آل حام؛ وهي أيضا صورة إبراهيم الراعي الذي بارك ابنيه إسحق وإسماعيل، فولد له الأول بني إسرائيل المباركين، وجعل منهم الإله شعب الله المختار؛ وولد له الثاني الشرفاء العرب42، وجعل منهم سادة على العالمين.
وقد كان لهذا التفضيل الإلهي للساميين على الحاميين ثمناً كبيراً سيؤديه هؤلاء الأخيرين للأوائل. إذ نتيجة للتدافع التاريخي، ولقحط شبه الجزيرة العربية، ولاعتماد الساكنة على مهنة الرعي، بالدرجة الأولى، ولانغراسهم في ثقافة بدوية غازية لم تعرف أبداً شأو التقدم الذي عرفته الحضارات الزراعية لدى السومريين والفلسطينيين والمصريين إلخ فإن هذه الشعوب الرعوية ستبحث لها عن منافذ جديدة بحثاً عن أراضي خصبة وغنية تغنيها عن شظف العيش. فكان أن اصطدموا بالحضارات التي سُميت، منذ ذلك الحين، حضارات حامية؛ ونظراً لقوة هذه الحضارات، ولاعتمادها على الزراعة، وعلى جيوش منظمة، ولإحاطة مدنها بالأسوار، فقد ظلت القبائل الرحالة من أكادية وعبرية وعربية تائهة لقرون طويلة، متنقلة وباحثة لها عن مستقر، مغيرة تارة على هذه المدينة، أو قاطعة الطريق على تلك القافلة التجارية. وخلال هذه الفترة الطويلة ستنتج هذه الجماعات ما يمكن أن نسميه بثقافة الكره، مراكمة لمعتقد ديني مفاده أن كل الأراضي الخصبة التي في أيدي هؤلاء المستقرين داخل مدنهم، إنما هي من حقهم، ولا بد أن يأخذوها منهم لأن الله وعدهم بها (الأرض الموعودة)43. هكذا، إذن، ستشكل مرحلة إبراهيم مرحلة اغتصاب الأراضي، وسيشترط الإله على المؤمنين ليعفو عنهم طرد الساكنة الحامية، وأخذ مكانهم. ففي سفر الخروج، مثلاً، يأمر الإله بني إسرائيل «أن يطردوا سكانها الأصليين، ولا يقطعوا معهم عهدا» (سفر الخروج 23: 31-33). وفي التكوين أيضاً نقرأ: «وقال الرب لأبرام [أي إبراهيم] بعدما فارقه لوط: ارفع عينيك وانظر من الموضع الذي أنت فيه شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، فهذه الأرض كلها أهبها لك ولنسلك إلى الأبد» ( 15 – 13 التكوين)، وفي موضع آخر من نفس المرجع نقرأ: «وقطع الرب مع أبرام عهداً، قال: «لنسلك أهب هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات» ( 17 – 15 التكوين). ويبدو أن المسلمين قد استحْلَوا هذا القرار الإلهي كما دشنته التوراة، ولذلك سنلاحظ أن ابن كثير سيعيد روايته في مؤلفه البداية والنهاية، حيث يقول:»ثم إن الخليل عليه السلام رجع من بلاد مصر إلى أرض التيمن، وهي الأرض المقدسة التي كان فيها ومعه أنعام وعبيد ومال جزيل، وصحبتهم هاجر القبطية المصرية. ثم إن لوطاً عليه السلام نزح بما له من الأموال الجزيلة بأمر الخليل له في ذلك إلى أرض الغور المعروف بغور زغر، فنزل بمدينة سدوم، وهي أم تلك البلاد في ذلك الزمان، وكان أهلها أشراراً كفاراً فجاراً وأوحى الله تعالى إلى إبراهيم الخليل فأمره أن يمد بصره وينظر شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وبشّره بأن هذه الأرض كلها سأجعلها لك، ولخلفك إلى آخر الدهر، وسأكثر ذريتك حتى يصيروا بعدد تراب الأرض. وهذه البشارة اتصلت بهذه الأمة، بل ما كملت ولا كانت أعظم منها في هذه الأمة المحمدية، يؤيد ذلك قول رسول الله (ص):»إن الله زوى [أي طوى] لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها»44.
هكذا، إذن، ستبدأ مرحلة أخرى من مراحل انتصار السامية على آل كنعان الحاميين. فبعد أن لعنوا في حكاية آدم وأبنائه، وأخرجوا من رحمة الله، سوف يؤسرون ويسبون ويستعبدون في عهد النبي إدريس، وسوف تغير نطفهم فتسْوَدُّ ألوانهم، وتكبر أحجام شفاههم، وأحجام أعضائهم التناسلية، وتتجعد شعورهم، وتقنى أعينهم إلخ في عهد النبي نوح، كما أنهم في عهد النبي إبراهيم سوف يشرعنون دينياً لأخذ أراضيهم، وطردهم منها. فلأن «أهل سدوم [كانوا] أشراراً خاطئين جدا أمام الرب» (ص: 15- 13 التكوين)، فإنه كان لزاماً أن تؤخذ منهم تلك الأراضي الخصبة، ويحولوها إلى مراعي لهم وإلى مستقر لأهاليهم. والفارق الوحيد بين الخطاب التوراتي وخطاب المفسرين الإسلاميين هو أن هذه الأرض الموعودة سيعتبرها العبرانيون حقاً إلهياً لهم، في حين سيعتبرها العرب حقاً لهم، والدليل على ذلك، كما يقول ابن كثير، هي أن هذه الشارة الربانية قد «اتصلت بهذه الأمة [] المحمدية». وهل لنا أن نذكر اليوم أن الصراع المرير القائم بين العرب الفلسطينيين، حفدة الحاميين القدامى، مع الإسرائيليين، ما هو إلا امتداد لصراع قديم يستند أساساً على هذه المقولة الأسطورية التي جعلت الإله يمنح الأرض الموعودة لليهود في سجلهم التوراتي، ثم منحها، في مرحلة تالية للعرب الإسماعيليين، كما هو وارد في إخباريات المفسرين وسدنة الدين.
ولقد كان في الإمكان أن نواصل تحليلنا لحكاية إبراهيم، وأن نبحث عن الأصول الأسطورية لصراع العبرانيين والعرب، ونبحث بالتالي عن تلك الخطاطة الميتولوجية التي أنتجت ذلك الكره الشديد ما بين أبناء إسماعيل وأبناء إسحاق45. ولكن الخوف من الإطالة سيجعلنا فقط نشير إلى أن السبب يعود بالدرجة الأولى إلى تلك الزيجة التي قام بها الأب إبراهيم والتي ندم عليها فيما بعد كما يورد ذلك نص التوراة؛ فمن المعلوم أن هذا النبي عندما وصل إلى مصر46 منحه أحد الفراعنة امرأة حامية اسمها هاجر؛ ولأن الزوجة الأولى، والتي كانت سامية مائة في المائة، كانت عاقراً، فقد أوحت إلى زوجها أن ينكح المصرية وينجب لها منها ولداً. فكان الذي كان، وَوُلِد لإبراهيم من هاجر الكنعانية ابنٌ هو إسماعيل قال عنه التوراتيون أنه كان «رجلاً كحمار الوحش، يده مرفوعة على كل إنسان، ويد كل إنسان مرفوعة عليه، ويعيش في مواجهة جميع إخوته» ( 17-18 التكوين 16)؛ ولأن الأقدار لعبت لعبتها، فإن سارة (الزوجة السامية) ستلد بعد عمر طويل ابنا سامياً هو إسحق. وهنا سنستعيد، مرة أخرى، تلك الخطاطة الأصلية المشار إليها آنفاً. إذ سيعتبر أبناءُ إسحاق أن أبناءَ إسماعيل هم امتداد جزئي للسلالة الملعونة عن طريق الأم، فقد رأوا في تلك الزيجة التي باشرها والدهم بالمصرية امتهاناً للدم السامي الطاهر وتدنيساً له بالدم الحامي الملعون، ولأن القاعدة كما حفظتها الأجيال هي أن تظل الوصية (النبوة) في سلالة آل سام فقط، بحكم خاصيتها العرقية، فإن هذا يعني أن النبوة أصبحت مقصورة على أبناء إبراهيم من سارة دون غيرهم من أبناء هاجر؛ وقد كان إبراهيم صارماً في الحفاظ على هذا الدم «الطاهر»، ذلك لأنه رفض رفضاً باتّاً أن يعيد الخطأ الذي ارتكبه عندما تزوج بهاجر، فقد قال لكبير خدمه ووكيل أملاكه، عندما وصل ابنه اسحق سن الزواج، مستحلفاً إياه بوضع يده تحت فخذه: «ضع يدك تحت فخذي، فأستحلفك بالرب إله السماء وإله الأرض أن لا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين الذين أنا مقيم بينهم، بل إلى أرضي وإلى عشيرتي تذهب وتأخذ زوجة لابني إسحق» (26 التكوين 24)؛ ولما عرض عليه خادمه الذي لم يكن غير أليعازر الكنعاني تزويجه ببنته، أجابه إبراهيم: «أنت أليعازر عبد، وأما إسحاق فحُر، فهل يجتمع الملعونون مع المباركين»؛ وبذلك سيتزوج إسحاق من «بنت أخيه» (28 التكوين 24) السامية، فتحددت السلالة المباركة في مواجهة السلالة الملعونة «جزئياً» وفي مواجهة السلالة الحامية الملعونة كلياً؛ وبطبيعة الحال فإن هذا الحكم القاسي سيثير حفيظة أبناء إسماعيل الذين فهموا اللعبة الميتولوجية التي لم يفهمها الحاميون، وسيدافعون عن أحقيتهم في الاستئثار بالوصية، وبالاحتفاظ بدمهم السامي الطاهر، مما سيجعلهم يعتبرون، سيراً على المنظومة المعتقدية الأبيسية التي يؤمنون بها، أن الأبوة هي الأصل في الانتماء، وهي المرتكز الأساسي في تحديد الأنساب، وأن الأمومة لا دور لها أبداً إلا فيما يتعلق بالحمل والولادة. فالله، كما يقول ابن كثير، قد خلق العباد في صلب آدم قبل أن يخلق حواء، أي قبل أن يخلق المرأة من الضلع، وليس بطن المرأة إلا مكاناً للتصوير، في حين أن الخلق الحقيقي قد وقع في الأزل، أي لما ضرب الإله على الكتف اليمنى لآدم فأنسل الأنبياء والصلحاء والمباركين وذوي البشرة البيضاء، وضرب على الكتف اليسرى فأنسل الطغاة والكفار والمارقين وكل ذي بشرة سوداء. لقد «قال سفيان الثوري عن الأعمش عن منهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن بن عباس، قال: خُلقوا في أصلاب الرجال وصوروا في أرحام النساء»47. وأورد سعد خبرا عن الرسول مرفوعاً إلى أبي هريرة قال فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، ثم جعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور ثم عرضهم على آدم فقال: أيّ رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك»48. وفي حديث آخر رواه أحمد في مسنده عن أبي الدرداء أن الرسول (ص) قال: «خلق الله آدم حين خلقه، فضرب كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الدّر، وضرب كتفه اليسرى، فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في كتفه اليسرى: إلى النار ولا أبالي»49. وبهذا سيصبح الانتماء إلى السامية انتماء إلى نسب أبوي، وتصبح الأمومة مقصاة بشكل كلي من حكاية «الانتساب» (فهي مكان للتصوير فقط وليس للخلق)، بل ويصبح الحكم على الذرية الحامية حكماً أزلياً، فَهُم إلى النار «ولا أبالي»، وتصبح مأثرة الساميين الذين خرجوا من الكتف اليمنى لآدم قراراً إلهياً ابتدائياً ونهائياً، فَهُم «إلى الجنة ولا أبالي». وكل هذا يأتي، بطبيعة الحال، في سياق دفاع العرب من بني إسماعيل عن نسبهم السامي الذي لا يمكن أن يكون إلا أبوياً عكس اليهود الذين يؤكدون على ضرورة الأمومة لاكتمال النسب السامي50.
هكذا، إذن، يمكن لنا أن نفهم الإطار الميتولوجي الذي يتحرك داخله الفكر الإسلامي واليهودي، والذي يشكل، في نظرنا، امتداداً لتدافع حضاري يضرب بجذوره في أعماق التاريخ الديني لشعوب منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط. وسنرى أن هذا الإطار هو الذي سيبنين الصورة التي سيحملها المسلمون عن الأمازيغ، كما أنه سيشكل مرجعاً لإعادة تصنيفهم والبحث لهم عن أصول أسطورية في الشرق بوصفهم امتداداً لعرق عاص ملعون وهارب إلى اليمن (أرض الحضيض).
4 ـ الأصول الحامية للشعب الأمازيغي
لم يكن للأمازيغ، كما ألمحنا، أن يشذوا عن الخطاطة الأسطورية التي قدمنا عناصرها فيما سلف؛ إذ ليس هناك من إخباريي الشرق في القرون الوسطى، على الأقل، من يشكك في أصولهم الحامية. ولقد حاول بعض الأمازيغ أن يدّعوا لأسباب دينية وسياسية، الانتماء إلى الأرومة العربية، هروباً من الوضع المنحط لآل حام، وبحثاً عن المكانة السلالية الاعتبارية التي يحتلها آل سام؛ إلا أن إخباريي السامية، ردوا عليهم بجواب قاطع، فقالوا: لا، إنكم لم تكونوا أبداً ساميين، إنكم وإن كنتم يمنيين فأنتم كنعانيون، بل إن منهم من تجاوز هذا الموقف ليؤكد أن الأمازيغ لا أصل لهم، وأن حواء لم تكن لتلد «البرابر»، وإلا لكان آدم قد طلقها، وهو ما يعني إخراجهم مطلقاً من الفرقتين المتنازعتين (فلا هم أبناء قابيل ولا هم أبناء هابيل / شيث)؛ يقول ياقوت الحموي في هذا الصدد: «أنشدني أبو القاسم النحوي الأندلسي الملقب بالعلم لبعض المغاربة يهجو البربر فقال:
رأيتُ آدم في نومي فقلت له: أبا البرية، إن الناس قد حكموا:
أن البرابر نسل منك، قال: أنا؟ حواء طالق إن كان ما زعموا»
هكذا، إذن، سيتسامح آدم مع حواء لما خانته مع إبليس ومع الحنش، ولكنه لم يكن ليتساهل أبداً معها في ارتكابها لجريمة إنجاب «البرابر». وهي، بطبيعة الحال، إشارة واضحة إلى أن الأمازيغ لا يمكن أن يكونوا أبناءه ولا أبناء حواء؛ بل ولا حق لهم في أن يكونوا حتى أبناء قابيل الملعون؛ وعليه، فقد ذهب الإخباريون، وموزعو صكوك النسب، في أصل هذا الشعب مذاهب مختلفة، فقالوا هم أخلاط من بقايا أجناس لا شجرة لها، ولا أصل لها واضح؛ قال: «الطبري وغيره: البربر أخلاط من كنعان والعماليق؛ وقال مالك بن المرحل: البربر قبائل شتى من حمير ومضر والقبط والعمالقة وكنعان وقريش تلاقوا بالشام ولغطوا فسماهم أفريقش البربر لكثرة كلامهم»51. ولم يقف الأمر عند حدود تحقير نسل الأمازيغ، بل تجاوزه إلى تحقير اللغة التي يتكلمون بها، وهو ما يمكن أن نفهمه من كلمة «ولغطوا فسماهم أفريقش البربر لكثرة كلامهم». وبعودتنا إلى معجم المحيط سنلاحظ أن كلمة «بربر» لا تخرج عن معنى «اللغط» الذي يدل أيضا على الأصوات غير المفهومة التي تصدر عن الحيوانات. يقول ابن خلدون: «يقال بربر الأسد إذا زأر بأصوات غير مفهومة»52؛ وفي المعجم: «بربر المعز أي صوت، وتبربر الرجل: توحش وجفا طبعه». ومن شعر أفريقش الذي يؤكد معنى التوحش والجفاء قوله:
بَرْبَرَتْ كنعانُ لما سُقتُها من أراضي الضنك للعيش الخصيب53.
ومن معاني كلمة بربر في Petit Robert، نجد أيضاً معانى «البدائي» و»المتوحش» و»الأجنبي»54.
وأما الموقف الذي ادَّعاه الأمازيغ للأسباب التي رأينا، فقالوا إنهم عرب عاربة نزحوا من اليمن (أرض الحضيض وقابيل)، فقد كانت في إجابة ياقوت الحموي الكفاية، حيث قال: «فأكثرُ البربر تزعم أن أصلهم من العرب، وهو بهتان منهم وكذب»55. وأكد على هذا الموقف ابن خلدون الذي أورد بدوره أن هناك من يدعي أن البربر:»من ولد إبراهيم عليه السلام من نقشان ابنه»56، وأنهم «يمنيون وقالوا أوزاع من اليمن»57، وهو ادعاء، في نظره أيضاً، و»أبطله إمام النسّابين والعلماء أبو محمد بن حزم» الذي «قال في كتاب الجمهرة: ادعت طوائف من البربر أنهم من اليمن ومن حمير، وبعضهم ينسب إلى بربر بن قيس، وهذا كله باطل لا شك فيه. وما علم النسابون لقيس بن عيلان ابنا اسمه برّ أصلا، وما كان لحمْير طريق إلى بلد البربر إلا في تكاذيب مؤرخي اليمن»58؛ والمتفق حوله، هو أن أصول الأمازيغ حامية - كنعانية، وسواء جاءوا من اليمن أو فلسطين، فهم ملاعين، وستلحقهم اللعنة إلى يوم القيامة. إذ بالإضافة إلى كون العرب اليمنيين «ليسوا من سلالة إسماعيل»59، لكونهم قحطانيين كما يؤكد على ذلك إخباريو آل سام، فإن الثابت هو أنهم حاميون؛ فقد «قيل إن البربر من ولد حام بن نوح بن بربر بن تملا بن مازيغ بن كنعان بن حام. وقال الصولي: هم من ولد بربر بن كسلوجيم بن مصرائيم بن حام»60. «وقال الصولي البكري إن الشيطان نزغ بين بني حام وبني سام، فانجلى بنو حام إلى المغرب ونسلوا به. وقال أيضاً إن حام لما اسْوَدَّ بدعوة أبيه فرّ إلى المغرب حياء واتبعه بنوه وهلك عن أربعمائة سنة. وكان من ولده بربر بن كسلاجيم فنسل بنوه بالمغرب»61، وقيل «البربر فرقتان، وهما: البرانس والبتر فالبتر من ولد برّ بن قيس بن عيلان والبرانس بنو برنس بن سفجو بن أبزج بن جناح بن واليل بن شراط بن تام بن دويم بن دام بن مازيغ بن كنعان بن حام»62؛ ويشدد ابن خلدون على أن «أنسب ما قيل أنهم من ولد القبط بن حام لما نزل مصر خرج ابنه يريد المغرب فسكنوا عند آخر عمالة مصر»63، ولذلك فـإن «الحق الذي لا ينبغي التعويل على غيره في شأنهم أنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح، وأن اسم أبيهم مازيغ وإخوتهم أركيش وفلسطين إخوانهم بنو كسلوجيم بن مصرايم بن حام»64، وهو ما أشار إليه صاحب الاستقصا عندما ذكر أن صاحب «كتاب الجمان في أخبار الزمان» قد أكد على «أن بني حام تنازعوا مع بني سام فانهزم بنو حام أمامهم إلى المغرب وتناسلوا به، واتصلت شعوبهم من أرض مصر إلى آخر المغرب إلى تخوم السودان»65.
الخلاصة التي نخرج بها، إذن، هي أن الأصول اليمنية للأمازيغ لا تعني أبداً أنهم في مستوى إخوانهم من أبناء سام. فهم حتى وإن جاءوا من اليمن أو من الشرق عموماً عن طريق الحبشة وفلسطين إلخ. فإنهم لن يصلوا إلى مكانة الساميين التي هي المكانة السامية للعرق المبارك حصراً. وسيراً على هذه الخلاصة فإن الصورة التي سيحملها المخيال السامي عن الأمازيغ لن تختلف كثيراً عن الصورة التي حملوها عن آل قابيل وآل حام إلا فيما يتعلق بالتفاصيل. وسنحاول في الفقرة الموالية التوقف عند مميزات هذا الشعب كما رسمها هذا القصص الديني، وكما أعيد قراءته في سياق التدافع التاريخي بين شعوب المنطقة.